السبت:14. 01. 2006

د. حسن حنفي

المواطن لاجئ في وطنه، في جنوب الوادي وشمالهmiddot; وبدلا من أن يربط النيل من على ضفافه فرّق بينهم، ورماهم في بحر الغربة في الشمال على الضفة الأخرى للمتوسط في أوروبا، الملجأ والأمل الأخيرmiddot;

ثلاثة آلاف لاجئ سوداني في القاهرة، أكثر أو أقلmiddot; فالفرد أمة بأكملها ''إن إبراهيم كان أمة''middot; لفظهم وطنهم الأول، السودان الشقيق، الجمهورية السودانية أي السودان الجماهيري أي الدولة الشعبية، والنظام الذي يرعى مصالح الناسmiddot; لم يستطع إلا مؤخرا حل قضية الجنوب في إطار من الحوار الوطني، والتعددية السياسية، وعدم التضحية بوحدة الأوطان من أجل تطبيق الشريعة الإسلامية مسلمين وغير مسلمين، وهي لا تطبق إلا على المسلمين وحدهم، وليس فقط الحدود بل أيضا الحقوق، ليس فقط قانون العقوبات بل أيضا النظام السياسي القائم على أن الإمامة عقد وبيعة واختيار، وأن الرئيس منتخب من الشعب وليس ممثلا لله، والنظام الاقتصادي القائم على الملكية العامة لوسائل الإنتاج، الزراعة (الماء، والكلأ)، والصناعة (النار)، والعمل فيه مصدر القيمةmiddot; فالمال لا يولد المال بدليل تحريم الربا، وعدم تركيز المال في يد حفنة قليلة (كي لا يكون المالُ دولة بين الأغنياء منكم)، واستثماره دون تبديده في الاستهلاك ''ولا تؤتوا السفهاء أموالكم''middot; وبعد حرب أهلية كلفت السودان آلافا من الشهداء تمت المصالحة الوطنية ومخاطر الانفصال لم تتبدد بعدmiddot; ثم نشأت قضية دارفور، وآلاف اللاجئين من الحرب الأهليةmiddot; وتدخلت القوى الكبرى في القضيتين، الجنوب ودارفور، للبحث عن حل تحت التهديد، وفرض العقوبات الدوليةmiddot; وغاب العرب، وحضر الأفارقة وكأن أطراف الوطن العربي في الجنوب مع الأفارقة وفي الشرق مع الآسيويين لابد أن تتآكل تحت وطأة النعرات العرقية والطائفيةmiddot; ثم حصار القلب في مصر وإجهاضه والقضاء على فاعليته ومركزيته بالتبعية للغرب وللولايات المتحدة الأميركية خاصة وإحلال إسرائيل محلها تقوم بدورها في تحديث الوطن العربي وتجميعه وتوحيده في قطب مستقلmiddot; والأخطر هو الحكم على الثقافة العربية والإسلام في أجهزة الإعلام الدولية والقنوات الفضائية بالعنصرية والتسلط والتخلف وخرق حقوق الإنسان، الشباب والأطفال والشيوخ، واضطهاد الأقلياتmiddot; ومهما حاولنا الدفاع عن الثقافة العربية وعن الإسلام المثالي بالنص إلا أن الواقع أبلغ من كل نص، خطوة إلى الأمام وخطوتان إلى الخلفmiddot;


ولجأ المواطنون السودانيون إلى شمال الوادي إلى الأخت الشقيقة والجار الجنب طالبين الحماية والعونmiddot; فالشعب واحد في الشمال وفي الجنوبmiddot; ومصر للسودانيين هي الوطن الثاني بل والوطن الأول ثقافة ورحماmiddot; وعاشت عدة أجيال على شعار وحدة وادي النيل ووحدة مصر والسودان، وكما صرح أحد زعماء مصر الوطنيين ''تقطع اليد التي توقع على انفصال الجنوب والشمال''middot; وكانت مصر باستمرار ملجأ المهاجرين والمناضلين من كافة أرجاء الوطن العربي، بما عُرف عنها من تسامح وحسن ضيافة وكرم مثوىmiddot; وعلى مدى ثلاثة أشهر والأشقاء السودانيون في العراء في ميدان عام معتصمينmiddot; يعيشون في ظروف لاإنسانية، نساء وأطفال وشيوخ، في برد الشتاء القارص وبلا حمامات عامةmiddot; يأكلون ويطبخون وينامون ويمارسون حياتهم الطبيعية تحت غطاء السماءmiddot; لم تحاول مصر إعطاء مساكن للإيواء، احتراما لحقوق الإنسان، وقيل إن السبب هو التواطؤ بين النظامين في الجنوب والشمالmiddot; ثم جاء الأمر بفض الاعتصام بالقوة بعد أن فشلت محاولات الحوار كما يقال بين المسؤولين الثلاثة جنوب الوادي وشماله والمفوضية العليا للاجئين التي تمثل العالم الحرmiddot; وتم ذلك بخراطيم المياه والهراوات، حتى سقط حوالى ستين شهيداً، وضعفهم من الجرحى، ومثلهم من الشرطة المصرية وقوات الأمن المركزي لمكافحة الشغبmiddot; خمسة وعشرون كتيبة من الأمن المركزي، يرافقها خمسمائة ضابط بدعوى حماية البلاد من خطر ''الإيدز''، وشكوى السكان بالبنايات المجاورة، واحتمال التظاهر المضادmiddot; وبعد أن فر المواطن السوداني من وطنه الأول الذي لم يراعه إلى وطنه الثاني الذي لم يحمه لجأ إلى الوطن الثالث المأمول إلى المفوضية العليا للاجئين، والأمم المتحدة، ونظام العالم لحمايته بعد أن تخلى عنه وطنه في الجنوب وأولاد العمومة في الشمالmiddot; تأخر صرف الإعانات للاجئين كما تأخر الرد على طلبات الهجرة إلى أستراليا وكنداmiddot; والمهانون في أوطانهم وفي عروبتهم لماذا لا يُهانون أيضا في المنظمات الدولية التي مازال يحكمها تصور الرجل الأبيض للملونين، بقايا الرق من أفريقيا الذي أُحضر عنوة إلى العالم الجديد وإلى أوروبا للبناء والتعميرmiddot; وأوروبا تعاني من الهجرة، من جنوب المتوسط إلى شمالهmiddot; ويريد الاتحاد الأوروبي الحد منها في حين تم تسهيل هجرة ''الفلاشا''، يهود إثيوبيا إلى إسرائيل بسهولة ويسرmiddot; وتهجير آلاف اليهود من روسيا والدول الغربية والولايات المتحدة الأميركية إلى إسرائيل والذي وصل في العقد الأخير إلى المليونmiddot; بل إن أميركا كلها الآن والتي يزيد عدد سكانها على المائتي مليون شعب من المهاجرينmiddot; وتدعي أوروبا رعاية حقوق الإنسانmiddot; وتنتقد غيرها لخرق حقوق الإنسانmiddot; وفي الممارسة الفعلية لا فرق بين أوروبا وغيرها ما دام الأمر يتعلق بالملونينmiddot; فحقوق الإنسان تراعى فقط داخل حدود أوروبا الجغرافية، وتنتهي خارجهاmiddot;


وكل من الأوطان الثلاثة يلقي المسؤولية على الآخرmiddot; فالسودان يلقي المسؤولية على مصرmiddot; تترك المقدمات وتأخذ النتائجmiddot; المشكلة في الجنوب وفي دارفور وتـُرحل إلى مصرmiddot; ومصر تلقي اللوم على المفوضية الدولية للاجئين، أنها لم تقم بدورها في حل قضايا اللاجئين السودانيينmiddot; والمفوضية الدولية صامتة، لا تعليقmiddot; فأزمة الأوطان داخلية لا تحلها المنظمات الدوليةmiddot; وما دام السلام قد حل في ربوع السودان في الجنوب وفي الغرب فعلى اللاجئين العودة إلى وطنهم الأصليmiddot; والأوطان تدفع بمواطنيها إلى الهجرة كالقبور التي تلفظ أجسادها يوم الحشرmiddot; وانهارت حجة العرب ضد معاملة إسرائيل للفلسطينيين، وقوات الاحتلال الأميركي في الفلوجة والقائم للعراقيينmiddot; فالعرب يفعلون نفس الشيء بأنفسهمmiddot; ويُعذب أسرى غوانتانامو في الوطن العربي الذي تمارس سجونه التعذيب وليس في سجون الغرب، حرصا على الشكل، وخوفا من تسريب الإعلامmiddot;


لم يبق للاجئين إلا الوطن الرابع، بعد السودان ومصر والمفوضية الدولية لشؤون اللاجئين وهي الراحة في السماء بعد الاستشهادmiddot; ففي السماء متسع للجميعmiddot; وللشهداء الروح والريحانmiddot; فنعيم السماء خير بديل عن شقاء الأرضmiddot;
وإذا كان هذا هو الحل للشهداء فمازال الأحياء يفترشون الأرضmiddot; ويستمرون في المقاومة، يساندهم المصريونmiddot; إن مجرد الإدانة من أحزاب المعارضة لا تكفي، بل النزول إلى الشارع والاعتصام المشترك في نفس المكانmiddot; لقد قام الشعب باسترداد حقوقه من المحتل الغاصب أثناء حركات التحرر الوطنيmiddot; ثم بدأت الدولة الوطنية التابعة في التفسخ والانحلالmiddot; فدور الشعب الآن استئناف مرحلة ثانية من التحرر الوطني ضد الهيمنة الجديدة والعدوان العسكري المباشر في العراق وأفغانستان، وتهديد سوريا ولبنان وإيران وضد التسلط والطغيان والقهر والاستبداد في الداخلmiddot; متى يجد اللاجئ العربي وطنا له؟