الأحد:15. 01. 2006
د. عبدالله المدني
كغيرها من مناطق العالم، تواجه منطقة شرق آسيا جملة من التحديات في العام الجديد، وإن بدت هذه التحديات اقل خطورة وحدة بالمقارنة مع ما تواجه مناطق أخري. وإذا ما تجاوزنا ملفات مثل مكافحة الإرهاب و التطرف والتصدي للحركات المليشاوية الانفصالية و تقييد الانتشار النووي وتأمين إمدادات الطاقة بكميات كافية وأسعار معقولة للمحافظة علي الزخم الاقتصادي، فان أول ما يستدعي الوقوف عنده هو التحدي المتمثل في خلق منطقة آسيوية للتجارة الحرة كخطوة أولي علي الطريق نحو إقامة السوق الآسيوية المشتركة فالاتحاد الآسيوي علي غرار الاتحاد الأوروبي.
ومما لا شك فيه أن التعامل مع هذا التحدي يستدعي أولا التعامل الجدي مع قضايا تندرج جميعها في خانة بناء الثقة وإزالة بقايا الرواسب التاريخية بين مجموعة من الدول الآسيوية، ولا سيما ما بين اليابان من جهة وكل من الصين وكوريا الجنوبية. فهذه الرواسب التاريخية وما ينشأ عنها من وقت إلي آخر من تصعيد متبادل بين أطرافها، يعيق الانطلاق السلس ويوتر الأجواء في المنطقة كلها وبشكل قد يطيح بما تم إنجازه من خطوات أو يعيق تواصله.
إلي ذلك تبرز مشكلة الارتقاء بمستويات بعض الدول الأقل تقدما وانفتاحا داخل المجموعة الآسيوية، ولاسيما بورما (ميانمار) وأقطار الهند الصينية، وذلك من اجل تضييق الهوة الفاصلة بينها وبين بقية أعضاء المجموعة. ولو أن الأمر كان مقتصرا علي الفجوة الاقتصادية والتنموية لهان الأمر، ولكانت المساعدات الاقتصادية والهبات والاستثناءات كفيلة بحل المشكلة في مدي زمني معين، علي نحو ما اتبعته الجماعة الأوروبية مع البرتغال واليونان مثلا في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي. لكن المعضلة الأساسية تكمن في وجود أنظمة سياسية متخشبة تقاوم الإصلاح والانفتاح السياسي وتتفنن في الهروب مما تواجهه من استحقاقات عالمية. وأفضل مثال علي هذا الشق هو بطبيعة الحال ما يقوم به النظام العسكري الديكتاتوري في بورما.
ويمكن هنا أيضا أن نضيف الصراع الخفي علي قيادة المنطقة. فالتعاون والتنسيق والتكامل بين دولها لا يلغي طموحات هذا الطرف أو ذاك في أن يكون له دور قيادي أو كلمة مسموعة توازي وزنها الإقليمي والدولي وقدراتها المميزة، خاصة في ظل وجود أكثر من عملاق في شرق آسيا.
علي أنه من حظ المنطقة أنها تمتلك منظومة راسخة للتعاون كمنظومة آسيان التي تضم في عضويتها عشر دول جنوب شرق آسيوية، إلي جانب منتدي ''آسيان + 3 '' الذي يضم دول آسيان العشر وكلاً من اليابان والصين وكوريا الجنوبية ويعقد قمة كل عام بالتزامن مع قمة آسيان السنوية. وهناك منظومة أخري جديدة في طور التبلور هي منتدي دول شرق آسياlaquo; الذي يضم دول آسيان العشر إلي جانب الصين واليابان وكوريا الجنوبية والهند واستراليا ونيوزيلندة. وهذا يوفر أكثر من ساحة دائمة للحوار والنقاش وتقريب وجهات النظر بين الشركاء الآسيويين، وبما يمكنهم من تذويب الكثير من الخلافات وإيجاد الحلول الواقعية والهادئة للعديد من العقبات بروح المسئولية الجماعية التي اشتهروا بها.
أن منتدي دول شرق آسياlaquo; الجديد الذي انبثق عن اجتماع قمة لزعماء الدول الست عشرة في العاصمة الماليزية في منتصف ديسمبر الماضي، هو في واقع الأمر مؤشر قوي ودليل عملي علي إصرار الآسيويين علي مواجهة تحديات القرن بالمزيد من الحوار والتعاون الهادف إلي المزيد من التكامل والترابط المفضي في نهاية المطاف إلي قيام الإتحاد الآسيوي، أو الفكرة التي بشر بها رئيس الحكومة الماليزية السابق مهاتير محمد قبل عقد ونصف.
فدخول قوي شمال شرق آسيا الكبري الثلاث في التجمع يكشف عن وجود رغبة جماعية في تعزيز عملية بناء الثقة والاستقرار في المنطقة علي قاعدة منهجية، كما يوحي بوجود رؤية لدي أقطار جنوب شرق آسيا مفادها أن إدماج طوكيو وبكين في المخططات الجماعية الخاصة بالمنطقة هو احد أفضل الوسائل لتخفيف المنافسة بينهما وبالتالي عدم الاضطرار يوما إلي الاصطفاف مع احداهما ضد الأخري.
وقبول عضوية الهند يعني توسعة حدود ومفهوم مصطلح شرق آسياlaquo; بغية إدماج العملاق الجنوب آسيوي وربطه بالعملاق الصيني لتستفيد دول المنطقة بهما ومنهما امنيا واقتصاديا وتجاريا وعلميا. وإلحاق استراليا ونيوزيلندة الأوروبيتين ميراثا وتراثا بالتجمع معناه تجاوز الآسيويين للخصوصيات العرقية والثقافية واستعدادهما لمنح المنطقة وجها جديدا يتناغم مع تحولات العولمة، فضلا عن انه مؤشر علي تطور نوعي في مواقف اندونيسيا وماليزيا. فماليزيا في عهد زعيمها المتقاعد مهاتير محمد كانت ضد فكرة دمج هذين البلدين في أية مشاريع وحدوية آسيوية، ليس بسبب تراثهما الأوروبي فقط وإنما أيضا بسبب دورهما في الاستراتيجيات الغربية. أما اندونيسيا فتقدمت الصفوف في معارضة الفكرة علي خلفية ما حدث بعد الحادي عشر من سبتمبر 2001 ، حينما أعطت كانبيرا لنفسها الحق في التدخل في دول الجوار الآسيوي لضرب الإرهاب عبر ضربات عسكرية استباقية.
أما تجاهل الولايات المتحدة التي لا تزال تحظي بدور مهم في المنطقة عبر اتفاقيات شراكة استراتيجية مع عدد من دولها، فانه لا يحمل أية رسالة معادية لواشنطون ومصالحها في آسيا، أو فكا للارتباط التقليدي الطويل معها، بقدر ما يشير إلي قدرة الآسيويين علي بلورة أفكار ورؤي ومشاريع استراتيجية خاصة بمنطقهم باستقلالية، كما كتب أحد المراقبين.
ولئن كان التجمع الشرق آسيوي الجديد سيواجه مشكلة كيفية المواءمة والتنسيق بين ما يصدر عنه من قرارات مع ما يصدر عن المنظومتين السابقتين له زمنيا والمختلفتين عنه قليلا لجهة الأعضاء، فان المشكلة الأخري التي سوف تطرق بابه هي كيفية التعامل مع رغبة موسكو في الانضمام إليه.
فعلي حين قد يري بعض الأعضاء أن منح العضوية للاتحاد الروسي سيضفي مزيدا من القوة والأهمية للتجمع أو يحقق توازنا مطلوبا للحد من أية هيمنة صينية علي التجمع - وهو نفس ما قيل في أسباب ضم الهند واستراليا- أو يساهم في الحد من مشكلة نقص الطاقة في شرق آسيا، فان آخرين قد يعارضون من منطلقات اقتصادية (اختلاف طبيعة وظروف البنية الاقتصادية للاتحاد الروسي) أو من منطلقات أمنية (وجود نزاعات تاريخية بين موسكو وطوكيو، ودور روسيا في تمكين بعض الأقطار من امتلاك السلاح النووي المهدد للاستقرار في المنطقة) أو من منطلقات تجنب إثارة الحليف الأمريكي الذي لئن صمت عن ضم الصين باعتبارها قوة ذات مصالح وروابط تقليدية في المنطقة ولا خلاف علي هويتها الآسيوية، فانه لن يستحسن ضم روسيا الحالمة باستعادة دور ونفوذ عالمي زال مع زوال الاتحاد السوفياتي.
باحث و محاضر أكاديمي في الشؤون الآسيوية
التعليقات