صالح بشير

لعل آخر ما كان يتوقعه أرييل شارون أن ينهي حياته كما أنهاها، ليس فقط مصعوقا بمرض فجائي، وهو الذي لم يكتسب لقبه quot;البولدوزرquot; فقط من أسلوبه في مزاولة الحرب والسياسة، انقلابا دائما على أوضاع قائمة وعلى إجماعات مستتبة وعلى سياسات رسمية، بل كذلك من ضخامة جثته ومن مشيته مندفعا خفيفا قويا غير هياب بقوانين الجاذبية، ولكن كذلك أن يبلغ منتهى مساره محاطا بتعاطف بني جلدته وبإكبار العالم (غير العربي طبعا) الذي بوأه منزلة رجل السلام بالرغم من باعه الطويل في تقويض اتفاقات أوسلو وفي تدمير فرص التسوية.
لا هذا الإكبار ولا ذلك التعاطف آنيّان، ناجمان عن مرض الرجل وعن القلق من مغبّة غيابه والفراغ الذي قد يتركه ذلك الغياب، علما بأن شارون كان صانع ذلك الفراغ، من بعض أوجهه، خصوصا على الصعيد الفلسطيني، حيث أنفق سنواته الأخيرة، لا سيما إبان استعار الانتفاضة الثانية، دائبا على نسف مقومات الوجود الفلسطيني، تعبيراته ومؤسساته وأطره الناظمة. فرئيس حكومة الدولة العبرية المحتضر، أو العائد في أفضل الحالات وأكثرها تفاؤلا إلى حياة من قبيل quot;نباتيquot;، نجح، في سنواته الأخيرة وبعد أن قارب السبعين وتجاوزها، وقضى حياته هامشيا، في التحول إلى معبّر عن إرادة غالبية الإسرائيليين أو عن مزاج تلك الغالبية، وفي التماهي مع الوجهة الدولية السائدة (بفعل إرادة قوى آلت إليها الغلبة واستقالة أخرى أدركها الانكفاء)، حتى باتت مقاربته لـquot;التسويةquot;، هي المقاربة المعيارية، يسلم القابلون بها بأنها كل الممكن والمتاح، في حين لا يعترض المعترضون، عمليا، إلا على تفاصيلها وربما على بعض وسائل الإنفاذ، وإن توخوا في ذلك نبرة النقض ولهجة الإدانة... حتى أن رجلا مثل بنيامين نتنياهو، لو عاد إلى حكم إسرائيل، قد لا يجترئ على فك ما عقده شارون وأرساه quot;ثوابتquot;: quot;حلاّquot; أحادي الجانب للمسألة الفلسطينية، والنظر إلى الأراضي المحتلة، ضما أو انسحابا جزئيا، من زاوية quot;النقاء الديمغرافيquot;، أي الفصل السكاني بين الفلسطينيين والإسرائيليين لا التمييز بين أراض يقر العالم بأنها محتلة وأخرى يعترف بها حيزا للدولة العبرية.
ربما كان هذا النجاح السياسي للشارونية، فشلا، بمعنى ما، منظورا إليه من الزاوية الشخصية ووفق مقاييس طباع شارون. فهذا الرجل الذي قضى حياته، عسكريا ورجل سياسة، مقيما على هامشية متمردة، مبادرا مغامرا شاذا عن استراتيجيات وُضعت وعن سياسات اعتمدت، ربما انتهى به المطاف إلى خيانة طبيعته، إذ وجد نفسه في خريف العمر وقبيل إسدال الستار، وقد تحول إلى مناط إجماع بل وإلى مجترح ذلك الإجماع، ناهيك عن المباركة الدولية التي حظي بها، على ما تدل تأوهات وزير الخارجية البريطاني جاك سترو ودموع زميلته الأميركية كونداليسا رايس، مَن كان قبل سنوات قليلة خلت مهددا بالمقاضاة، من قبل محكمة بلجيكية، بتهم اقتراف جرائم حرب وأخرى ضد الإنسانية، لدوره في اقتراف مجازر صبرا وشاتيلا.
ولكن حتى بذلك المقياس المتعلق بالطباع أو بالنفسية، إن صحّت النسبتان أو الإضافتان، لم يفشل شارون. إذ ليس هو من عنّف جبلّة لديه أو كبتها أو طوعها، ليتبوأ موقعه المستجد كصانعِ أو كمشرعن إجماع، ولكنه العالم هو الذي تغير ليتسع للشارونية وليستوعبها عنصرا يتناغم مع سويته الراهنة فلا يناهضها ولا يناقضها. إنه العالم الذي quot;تشورنquot;، بمعنى من المعاني، وليس شارون الذي آل إلى اعتدال وإلى وسطية، على ما بات يوصف ويُصنّف. فالشارونية المارقة في صيغتها السابقة هي هي الشارونية المعيارية في صيغتها الراهنة، لم يتغير جوهرها ولم يطرأ عليه تحول. مبدأها وأساسها هو المبادرة المطلقة بالقوة في مواجهة كل شأن يعرض، سياسي أو عسكري، وتجاهل أنصبة قائمة والتجاوز على توافقات محلية أو خارجية، متواضع عليها علنا أو ضمنا. كان ذلك شأنها في أطوارها الماضية، وهو شأنها في حاضرها، وبعد أن كفت عن أن تكون سلوك فرد لتصبح سياسة دولة.
كانت الشارونية في الماضي سلوك مروق، قد تستوعبه المؤسسة وقد تتسامح معه إن نجح، كما كان من حال استغلاله ثغرة الدفرسوار، أثناء حرب 1973، التي اندفع فيها مخالفا أوامر القيادة فكان أن غير مجريات النزاع وحوّل مصيره، وقد تتبرأ منها إن أخفقت، كما كان من حال الدور الذي اضطلع به، وإن تغاضيا يظل إجراميا على أية حال، في مجازر صبرا وشاتيلا، تلك التي انجر عنها تقرير كاهانا الشهير الذي أفضى إلى عزل شارون سياسيا، إلى أمد معلوم ولكنه طويل، وإن قصر عن ملاحقته جنائيا. أما الآن، فباتت الشارونية منسجمة تمام الانسجام مع روح العصر، بعد أن بات الاجتراء بالقوة والنظر إلى العلاقات الدولية من زاوية ميزان تلك القوة حصرا، ديدن أصحاب السطوة في هذا العالم.
الولايات المتحدة، في عهدها البوشي هذا، افتتحت هذا المسار الجديد، وجعلت منه سمة هذه الحقبة، عندما أقدمت على مغامرتها العراقية على ذلك النحو الذي لا يتطلب، لفرط معرفتنا به، تذكيرا أو إسهابا، فخاضت حربا لم يجزها العالم، مخالفة لقوانين هذا الأخير غير عابئة بها. صحيح أن الدول، لا فارق في ذلك إلا من حيث الحجم والسطوة، كثيرا ما سبّقت متطلبات النفوذ على دواعي القانون والقيم، فلم يتراخ عن الاستبداد إلا من كان عنه عاجزا، حسب تلك الحكمة التي صاغها بشار ابن برد قبل قرون، ولكن القوانين والقيم كانت حاضرة، تؤخذ في الحسبان وإن على سبيل مداورتها والتحايل عليها (ما يمثل، في ذاته، إقرارا ضمنيا بأنها مرتبة سلطة)، ولكن القوى النافذة, في زمننا هذا، ما عادت تتجشم حتى مثل ذلك العناء. فما عادت الولايات المتحدة، وهي الزاعمة نشر الديمقراطية وفرض احترام الحقوق الإنسانية، تتورع عن إقامة معتقل كذلك الذي في غوانتانامو أو عن توخي التعذيب في التحقيق مع من تشتبه في تورطهم في الإرهاب أو تفتح السجون السرية، تلك المسمّاة quot;مواقع سوداءquot;، غير الخاضعة لرقابة القانون والرأي العام.
هناك عودة، قد تكون شاملة عارمة، إلى تمجيد القوة السافرة، غير المستترة بقانون أو الملتزمة بأية مسؤولية أخلاقية أو معنوية، أساسا للتعامل بين الدول ولحل المشكلات، قد تكون السياسة الأميركية مثالها الأكثر بروزا ونتوءا، ولكنها ليست أنموذجها الوحيد والحصري. فرنسا من ناحيتها عادت إلى امتداح تاريخها الإمبراطوري، وسنت قانونا يفرض تدريس quot;الإيجابياتquot; التي جلبها الاستعمار على الشعوب التي كانت خاضعة له، quot;لا سيما في شمال إفريقياquot;، ينوّه ذلك القانون مُخصّصا، فلا تثير تلك الخطوة من الاستنكار إلا أقله وما ظل منحصرا لدى المعنيين به، من أوساط محلية فرنسية ومن شعوب، ناكرة للجميل، سبق لها أن تنعمت بتلك quot;الإيجابياتquot;، ولم ينجرّ عنها رد فعل خارج النطاقين ذينك، مع أن الأمر يتعلق مبدأ، مبدأ رفض إخضاع الشعوب، كان قبل سنوات قليلة، يمثل أحد الأسس التي يقوم عليها المعمار الدولي وبعض مسوّغات وجود مؤسسة كمنظمة الأمم المتحدة.
من هنا، وعودا إلى شارون، ليس هذا الأخير هو الذي تغيّر، فاعتدل وتوسط، لينخرط في العالم، رئيسا مسؤولا لحكومة دولة عضو في quot;أسرة الأممquot; أو في quot;المجتمع الدوليquot;، على ما تقول عبارات مكررة استوت كليشيهات، ولكنه الشارون إياه، كما عهده الشرق الأوسط دوما، وقد وجد، في عالم بات على مقاسه، فرصته في تحويل مروقه المقيم إلى أصل ومرجع، لتصبح الشارونية سياسة دولة ومزاج مجتمع.