الإثنين:16. 01. 2006
زيارة quot;السيد العجوزquot; ماذا يريد تشيني؟
حنان البدري
على الرغم من أن زيارة ديك تشيني نائب الرئيس الأمريكي هذا الاسبوع للقاهرة والرياض تأتي في إطار تكملة جولة سابقة له في المنطقة الشهر الماضي اضطر الى قطعها لضرورة وجوده في واشنطن بهدف التصويت على الميزانية وقوانين اخرى متعلقة بمكافحة الارهاب، وهو التصويت الاستثنائي دستورياً، حين تتعادل الاصوات لنائب الرئيس ورئيس مجلس الشيوخ في نفس الوقت الصوت المرجح، نجد من الضروري التوقف كثيراً أمام أهداف تلك الزيارة بجزءيها، فعادة ما تكون جولات نائب الرئيس تشيني الخارجية فائقة الأهمية، لأن الرجل ليس نائب رئيس بالمقاييس الامريكية الاعتيادية، بل كان منذ وصول ادارة بوش للحكم المحرك الأساسي وراء القرارات الاخطر والأهم.
الواقع ان زيارة تشيني تحمل في طياتها ما هو أبعد وأهم مما يحاول البعض في واشنطن اضفاءه عليها. وعلى مدى اليومين الماضيين وبعد التصريح المقتضب للبيت الأبيض حول طلب الرئيس بوش من نائبه القيام بهذه الزيارة، بدأ الحديث حول أجندة زيارة اعتيادية من الصعب ان يهضم المحنكون في السياسة ان تكون هي الهدف الأساسي، صحيح ان ملف الاصلاح والدمقرطة يحتل أولويات ادارة بوش بالنسبة لعالمنا العربي والاسلامي بوجه العموم، وكذلك ملفات ساخنة أخرى كعملية السلام والانتخابات الفلسطينية والوضع في العراق والموقف من سوريا.. ولكنها ملفات يعكف عليها مسؤولون آخرون في الادارة الأمريكية، وبحماسة، لا سيما في الخارجية الأمريكية. ويعتبر ديك تشيني ربما آخر شخص في ادارة بوش يمكن إرساله للتحدث في العالم العربي عن ldquo;أجندةrdquo; الحرية والدمقرطة الامريكية والتي لوحظ مؤخرا تباطؤ امريكي في التعامل العلني مع تلك ldquo;الأجندةrdquo;، ولديهم كوندوليزا رايس الأقدر على القيام بمهام تحسين صورة أمريكا حول العراق وأفغانستان وغيرهما.
وحتى اذا كانت هذه الملفات سيتم تناولها بشكل أعمق، فإن أقصى ما يستطيعه تشيني، رجل بوش القوي، هو ان ينقل توجهات واشنطن حولها، وهو ما سنتناوله في نهاية حديثنا هذا. ولكن الأخطر والأهم هو الهدف الرئيسي من تلك الزيارة الممتدة والتي بدأت الشهر الماضي بزيارة لها مغزاها الى افغانستان ثم لسلطنة عمان وباكستان، ثم العراق، والأخيرة كانت زيارة خطط لكتمان تفاصيلها الى درجة ان رئيس الوزراء العراقي عندما تم استدعاؤه الى مقر السفارة الأمريكية، فوجئ بوجود ديك تشيني.
ما هي إذاً تلك الأجندة المهمة التي تواكب زيارة تشيني الأكثر نفوذا في صنع سياسة القرن الأمريكية؟
الإجابة عن هذا السؤال تجبرنا على التوقف امام واقعتين حدثتا على مدى يومي الثلاثاء والأربعاء من الاسبوع الماضي، الأولى اصدار أوامر لإقلاع سرب مكون من 72 مقاتلة أمريكية من طراز ldquo;F16rdquo; من قاعدة فورت وين في الولايات المتحدة الى قاعدة امريكية وصفت بأنها في اقصى جنوب غرب آسيا (!) أي ليست بعيدة عن منطقة بحر العرب. وبالتالي ايران.
المتحدث باسم القيادة المركزية في تامبا بأتلانتا والمسؤول عن القوات الامريكية في المنطقة نفى ان تكون لهذا الامر علاقة بما يدور حول حلف التعامل مع المفاعلات النووية الايرانية.
الواقعة الاخرى كانت يوم الأربعاء الماضي وتحديداً في تل أبيب، حيث عقد الاجتماع الرقم 38 بين مجموعة العمل الأمريكية ldquo;الاسرائيليةrdquo; العسكرية السياسية المشتركة، وهو اجتماع أعلن أنه دوري، ولكن من الصعب ابتلاع الامر على عواهنه، لا سيما ان المجتمعين صرحوا بأنه كان اجتماعاً لمناقشة التحديات العالمية والاقليمية (!). واذا عرفنا ان المشاركين من الجانب الأمريكي كان من ضمنهم بيتر رودمان مساعد وزير الدفاع الأمريكي وجون هيللين مساعد وزيرة الخارجية الأمريكية، بينما ترأس الجانب ldquo;الاسرائيليrdquo; جاكون تورين المدير العام بالجيش ldquo;الاسرائيليrdquo;، فإن هذا الأمر سيساعد كثيرا على استيعاب حقائق تقود الى ldquo;أجندةrdquo; التعامل الأمريكي المزمع مع العضو التالي في ما يسمى ldquo;محور الشرrdquo;، حسب الوصف الأمريكي، أي ايران، بعد سقوط العراق ووضع ملف كوريا الشمالية، جانباً، وبشكل مؤقت. وبمعنى آخر سيقود الأمر الى التعرف الى ملامح تلك المهمة الخطيرة والتي تستحق تجشم الرجل العجوز مشاق الرحلة على حد وصف مصدر أمريكي متابع للأمر.
ومن الواضح ان واشنطن رسمت خطة تعاملها مع ايران من خلال مسارين أساسيين، هما:
أولاً: ldquo;تنظيفrdquo; المكان
ويقصد به تفعيل خطة لإعادة انتشار القوات الأمريكية بالعراق في غضون أشهر، وحيث لا يوجد في القاموس الأمريكي تعبير ldquo;انسحاب من العراقrdquo; في الوقت الحالي، وهي خطة سبق ان نشرنا تفاصيلها في ldquo;الخليجrdquo; وتقضي بنقل معظم القوات الأمريكية، لا سيما في مناطق وسط العراق وغيرها، الى ثماني قواعد عسكرية (محميات عسكرية) اتفق على تشييدها لحماية القوات الأمريكية من التعرض المباشر لهجوم المقاومة، مع تكثيف التمركز الامريكي في مناطق آمنة مثل الشمال العراقي ldquo;الكرديrdquo; والاعتماد بشكل أساسي وغير مسبوق على الدفاع الجوي لتقليل حجم الخسائر الأمريكية، وهو ما سيسهم في اطار آخر في تخفيف الاحتقان المتزايد داخلياً في الولايات المتحدة حول مغامرة العراق، وحجم الضحايا والخسائر الأمريكية، لا سيما ان انتخابات الكونجرس الجزئية، وبالتالي مصير الأغلبية الجمهورية وفرص الانتخابات الرئاسية القادمة ستكون على المحك.
أيضاً، سيتم التعامل مع قرار بولندا سحب قواتها المتمركزة في الجنوب العراقي وقرار بريطانيا سحب بعض قواتها رمزيا، وبذلك يتم تفعيل خطة أخرى لاستجلاب قوات عربية واسلامية تتمركز في الوسط وفي مناطق الشيعة، حيث تأخذ واشنطن على محمل الجد التهديد الايراني والذي وصلها مؤخرا بأنه في حالة التعرض لمفاعلاتها النووية، فعلى واشنطن توقع اختطاف ألف جندي يومياً، حيث تدرك القيادة الأمريكية جيدا الى اين قد يقود الولاء الشيعي في العراق في نهاية الأمر.
وعندما يستكمل ديك تشيني رحلته التي أنجز نصفها الشهر الماضي سيكون موضوع استجلاب قوات من مصر (فرقتين على الاقل) وطلب مساعدة الدول العربية الحليفة وكذلك الاسلامية، بما فيها باكستان، رغم حادث القصف الأخير لاصطياد الظواهري.. سيكون هذا الموضوع ضمن الأولويات الأمريكية، مع الأخذ في الاعتبار ان واشنطن ترى أهمية مشاركة قوات من مصر والمغرب وباكستان وبكثافة أعلى من الجزائر واليمن، فيما وصلها بشكل قاطع ان دول الجوار العراقي وتحديداً المملكة السعودية والأردن وتركيا، ولأسباب كثيرة ldquo;تفهمتها واشنطنrdquo;، لن تشارك بقوات في تلك الخطة.
لذا فإن الولايات المتحدة تعول كثيرا على مباحثات تشيني في مصر تحديداً، مصر التي سبق ان رفضت العرض الأمريكي ابان غزو العراق بشطب جميع ديونها وبإبرام اتفاق تجارة حرة مقابل المساهمة في الحرب. ولا يتوقع مع ذلك ان تقدم واشنطن هذه المرة لمصر ldquo;عرضا سخياrdquo; مشابهاً للعرض الأول.
كذلك تتضمن مهلة ldquo;التنظيفrdquo; هذه استعدادات ضخمة لتوفير حماية عسكرية وتكنولوجية فائقة لأماكن الوجود الأمريكي العسكري في المنطقة تحسباً لرد انتقامي ايراني.
أما المرحلة الثانية في تلك الأجندة المزدوجة تجاه ايران فسوف تجري بعد الانتهاء من ldquo;تفعيل على المستوى الدبلوماسي والسياسي الدولي، وبشكل مواز للمرحلة الأولىrdquo;، وتقضي بحشد المجتمع الدولي بشكل ثنائي مباشر لا سيما مع الحلفاء الأوروبيين وفي العالم العربي، وأيضاً من خلال الأمم المتحدة، لاسيما مع الصين وروسيا، ضد إيران وخططها النووية، ldquo;على حد الوصف الأمريكيrdquo;، وسيكون لوكالة الطاقة النووية الدولية دور في هذا الحشد، وكذلك مجلس الأمن الدولي، وذلك تمهيداً لتقبل دولي لأي قرار ldquo;ستجد واشنطن نفسها مضطرة لاتخاذهrdquo;، وهو قرار قصف المفاعلات النووية الايرانية المتاخمة بعضها للعمق الإيراني. وأذكر أن سكوت ريتر أكد لي بيقين مثير العام الماضي أن قرار توجيه ضربة لإيران قد تم اتخاذه بالفعل في واشنطن.. ولكن يبدو أن التصور الأمريكي الحالي لمواجهة إيران توسع ليس لضرب أو قصف مفاعلات ايران النووية فقط، بل الى استهداف الحرس الثوري الايراني، وتقديم المساعدة بكافة أشكالها المباشرة وغير المباشرة لمن يطلق عليهم أمريكياً ldquo;تيارات المعارضة الايرانيةrdquo; في الداخل والخارج.
وسيبقى الحشد السياسي والدبلوماسي والإعلامي المناوىء لإيران مركزاً على التهديد الذي تمثله إيران ل ldquo;اسرائيلrdquo; وللدول العربية على حد السواء، وانه إذا تم تنفيذ هذه الضربة فإن واشنطن وكذلك المجتمع الدولي سيضمنان إعادة إيران الى ما بين 20 40 عاماً الى الخلف، وبالتالي سيكفل الأمر فسحة زمنية كفيلة بإشغال الإيرانيين وانشغالهم بإعادة بناء الديمقراطية وبلدهم ثانية على الأقل لثلاثة عقود مقبلة.
وحسب التوقعات لدى المتابعين لهذا السيناريو فإن أي ضربة محتملة ضد إيران لن تتم إلا بعد تنفيذ ldquo;مرحلة التنظيف والحشد الأولىrdquo;، والتأكد تماماً من تحصين القوات الأمريكية التي أصبحت ومنذ غزو الكويت على مرمى قريب من إيران، فيما اتخذت تدريجياً، ومنذ سنوات، لا سيما بعد الحرب في أفغانستان، الخطوات العسكرية الأمريكية الكافية لحصار إيران شرقاً وشمالاً عبر طوق دول الاتحاد السوفييتي السابق وأفغانستان وقواعدها في تركيا وغيرها.
وإذا كان ذلك الهدف الأساسي سيتصدر أولويات تشيني في زيارته الاستكمالية للمنطقة، فإن بقية النقاط على ldquo;الأجندةrdquo;، والتي تأتي بعيد هذا الهدف بمراحل، نجد أنها تصب مع ذلك في بناء الهدف الأول.
بالنسبة للملف السوري، سنجد أن واشنطن لديها قناعة بأن سوريا التي تم عزلها وإضعافها إقليمياً ودولياً، بل وجزئياً عربياً، ستنقل للعرب أن التعامل الأمريكي مع دمشق سيكون أسهل من أي تعامل آخر لها في المنطقة أي في العراق، وأنه إذا كان قرار التدخل في العراق قد استغرق تنفيذه الفعلي ثلاثة أسابيع فإنه وبالنسبة لسوريا لن يستغرق أكثر من أسبوع واحد.
وإن البديل الوحيد هو أن تنصاع سوريا وتنفذ المطلوب منها من دون قيد أو شرط، وعلى الفور، مع إمكان حفاظ الرئيس السوري على منصبه.. وتذكير العرب بأنه في حالة عدم تنفيذ النظام السوري المطلوب منه فإن واشنطن لن تكون في حاجة لمساعدة من أحد لتوجيه ضربتها.. والمثير أن واشنطن ستؤكد في نفس الوقت أن هدفها ليس الحرب على سوريا (!).
وبالنسبة الى ملفات الاصلاح والدمقرطة والحرية، وكل الملفات التي تحمل مسميات أمريكية جميلة كتلك فإن من المتوقع أن يعاود ديك تشيني، لا سيما في حديثه مع المصريين، التأكيد على ربط الدعم الأمريكي بمختلف مستوياته بكافة عمليات الاصلاح. أيضاً سيطرح موضوع أيمن نور بشكل جانبي، وفي إطار التوجهات داخل الكونجرس وعلى مستوى الرأي العام الأمريكي (الاعلامي)، وهو الأمر الذي لوحظ قبل نحو أسبوعين، حيث تزامن صدور قرار غير ملزم يهدد ويربط المسارات الأمريكية لمصر بالاصلاح، وصدور معظم الصحف الأمريكية تقريباً في يوم واحد بأعمدة رأي رئيسية تنتقد بشدة ممارسات حرية فيما يتعلق بالاصلاح، ولم يخل الأمر من استخدام حادثة إزالة تجمع للاجئين سودانيين معتصمين منذ أشهر أمام مقر مفوضية شؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة بحي المهندسين.
أما ملف تحريك ldquo;عملية السلامrdquo; فقد سبق تشيني للمنطقة فريق من الخارجية ومجلس الأمن القومي لتهدئة الأوضاع، وأيضاً للتأكيد على قناعات واشنطن، وهي القناعات التي سينقلها تشيني للعرب، لدعم وتأييد الحزب ldquo;الاسرائيليrdquo; الجديد (كاديما) حتى مع سقوط شارون المريض. وغير خاف أن واشنطن تريد لrdquo;كاديماrdquo; الفوز، لقناعتها بأنه الحزب القادر حالياً على ldquo;توفير فرص أفضل لعملية سلامrdquo;، وان وصول تيارات ldquo;اسرائيليةrdquo; أخرى أكثر تشدداً من شأنه إشعال الموقف، وبالتالي نسف التهدئة المطلوبة أمريكياً في المنطقة، ما يؤثر سلباً في نهاية الأمر على المخطط الأمريكي للتعامل مع إيران، خصوصاً أن واشنطن تريد التفرغ خلال هذا العام لمواجهة طهران.
أيضاً، وفي ما يتعلق بالملف اللبناني والمناطق الشائكة المتعلقة بهذا الملف، وعلى رأسها حزب الله، فإن واشنطن ترغب بأي شكل في دعم محاولات تحويله الى حزب سياسي فقط، بعد نزع سلاحه وإدماجه في العملية السياسية، وهو الأمر الذي يتساوى وقناعة أمريكية أخرى عامة وموازية ترى ضرورة إدماج جميع التيارات الاسلامية في العملية السياسية، وبالاعتماد على تيارات اسلامية تصفها بالمعتدلة، مع نسف كل التوجهات والتيارات الاسلامية المتشددة.
على أية حال، إذا كانت تلك هي الصورة العامة للمعطيات الرئيسية لتوجه الاستراتيجية الأمريكية المزمعة، وهي معطيات قد تساهم في إزالة الكثير من علامات الاستفهام التي طالت زيارة ديك تشيني، فإن المفارقة الحقيقية، ونحن نرقب استعدادات واشنطن للدخول في مواجهة مع إيران بعد سنوات من التلمظ غيظاً والعداء، ان ايران التي كانت قبل عقود حليفاً مباشراً وأساسياً في المنطقة لواشنطن وتل أبيب معاً ولطالما استخدمتها أمريكا فزّاعة في المنطقة إبان حكم الشاه المخلوع، نجدها تقف الآن في ldquo;قفص الاتهامrdquo; كمصدر تهديد ل ldquo;اسرائيلrdquo; والولايات المتحدة.
التعليقات