غسان تويني


إنها quot;الجمهورية العربية (؟) السوريةquot; التي صار الخوف دستور حياتها والمبدأ الذي به يتجوهر حكمها، فتتعدد أبعاده:

خوف حكمها بعضه من البعض،

وخوفه مجتمعاً مما يمكن ان يظهره التحقيق في اغتيال الرئيس الحريري وبقية الجرائم ضد لبنان،

وخوف المحكومين من الحكام، الذي ينقلب خوفاً للحكام من المحكومين وممن يمكن أن يفرزه المحكومون حاكماً بديلاً عتيداً...

ولأنها quot;عربيةquot;، صارت الجمهورية الدستورها الخوف تصعّد خوفها عربياً: خوفاً عليها اذا صارت مهددة بالزوال، وخوفاً منها اذا هي تفجّرت عناصرها التكوينيّة فتُفجّر اذذاك سواها (وكأنما الخوف هذا سائل quot;بتروليquot; ما سيدبّ في المجتمعات المتاخمة فالأبعد منها، الى ان تعمّ نيرانه العالم العربي بكليته) مما يرتّب، بموجب منطق الخوف هذا اياه على العالم العربي أن يمنعها من الخوف على مصيرها لئلا تصدّره الى جيرانها، الاردن حيناً، فالعراق حيناً آخر، فـ.... فـ... فلبنان في كل حين!!! وصولاً الى التهويل على مصر (الخائفة بدورها من نتائج انتخاباتها كخوفها على وراثية quot;جمهوريتها الفرعونيةquot;)...

والتهويل قد يمتد إطاره كعباءة عربية يمكن أن quot;تنفلشquot; على أقطار أخرى، أقرب أو أبعد، واذا ضاقت عروبتها، فالفارسية جاهزة، وفيرة خيوط الخوف فالتخويف وصولاً الى الرعب فـ... الارهاب!

***

من هنا quot;المبادرةquot; الفريدة في دبلوماسيتها الابتزازية التي ألقت دمشق بعباءتها على آخر العرب الكبار، ثم هرولت تتكلم، بل تفاوض نيابة عنهم، باسم الخوف طبعاً وشعاراته: حذار ان تتأثر دمشق بـquot;المؤامرة الدوليةquot; لتغيير حكمها ونظامها لأنها اذذاك ستفيض (بخوفها) عبر حدودها الأقرب على لبنان الذي لم تشفَ بعد من اخراجها وquot;نظامها الأمنيquot; خارج حدوده... لبنان quot;العقوقquot; الذي ينكر على شقيقته الكبرى جميل تأمين استقراره خلال ثلاثين سنة من الحروب المفتعلة من اسرائيل ولمصلحتها عبر تحويل quot;الثورةquot; الفلسطينية التي quot;استوطنتهquot; بديلاً، وضلّت طريق تحرير وطنها الأصيل، فمضت حائرة مَن تحارب، اللبنانيين أم السوريين الذين دخلوا لبنان لاحتواء تلك الثورة، فوظّفوها في كل ما يصرفها عن هدفها المقدّس بل عن quot;مقدسيتهاquot; الأزلية... فكانت لهم (أي لعصارة السوريين المعتمدين لنشر quot;ثقافة الخوفquot; يميناً ويساراً، وفق تبدّل المحالفات) المافيات حيناً، والعصابات حيناً آخر، وصولاً الى الجيوش المقنّعة الهويات وquot;المنظماتquot; المضاربة للشرعية الثورية في كل حين...

وغني عن القول ان العسكر السوري (ولا نقول quot;السوريينquot; كي لا نعمّم المسؤولية) لم يخرجوا quot;صفر الايديquot; من لبنان... والثروات الفضائح شواهد، وكذلك quot;اليلاتquot; الجبلية العاهرة الفخامة، فضلاً عن الاسواق (quot;الحرةquot; ولعلها الشيء الوحيد الحر في سوريا!)... وخلّفوا، بديل ذلك، شواهد على اعتمادهم الخوف والتخويف اداة أمن وتأمين، آثار الدماء اللبنانية على جدران البيوت والفنادق المصادرة (والتي انتزعت منها حتى اسلاك الكهرباء ربما للاستعمال في التعذيب) وعلى الأرض السياط وباقي ادوات استخلاص الاعترافات الكاذبة... وكلها من quot;مبتكراتquot; ثقافة الخوف التي اقاموها في لبنان مناخاً للحكم بديل الدستور!

***

ويريدون، من quot;المبادرة الدبلوماسيةquot; اياها، العودة الى لبنان، وquot;مشكورينquot; وفق التعبير الذي كانوا يفرضونه على كل بيان سياسي وكل نص!!!

يريدون العودة، وقد استعجلوها عصابات quot;قاعدةquot; ربما لابتكار نمط جديد للاغتيالات والتفجيرات، وquot;فصائل فلسطينية خارج المخيماتquot; افتضح أمرها من فرط استعجالها العمل انتشاراً في الشوارع وعدواناً على المدنيين، وصولاً الى افتعال التظاهرات التي تعود ببيروت الى زمن التأسيس للحروب التي وصفوها، ايهاماً للتاريخ، بالحروب quot;الأهليةquot;!... وكانت كلها، وquot;الوثائق التاريخيةquot; والمذكرات براهين، من صنع الأحلاف الموضوعية بين الاعداء، بدل حروبهم بعضهم مع البعض!!!

***

وبعد، أما وquot;المبادرةquot; قد طويت، نرجو، الى غير رجعة، نتيجة فشلها في اجتياز حدود دستور quot;الخوف السوريquot; الى فسحات quot;التخويفquot; الدبلوماسي ، فيجدر بنا ان نتحدث، خاتمة، عن الموضوع الذي قلنا ان بواكير هذه المبادرة اوصلتنا اليه، عنينا موضوع quot;الحرب الاهليةquot;!

تكون quot;المبادرةquot; قد فشلت دبلوماسياً ونجحت لبنانياً اذا هي حوّلت لبنان quot;جمهورية خوفquot; أخرى (كي لا نقول quot;جمهورية خائفةquot; والفرق ليس بالضرورة شاسعاً، بل العكس).

بادىء ذي بدء، نعترف بأن ليست ثمة، quot;وصفةquot; طبية، أو علمية ضد الخوف... بل ثمة دعوات يمكن ان يوجهها واحدنا الى نفسه والآخرين، كأن نقول بعضنا للبعض quot;لا تخافوا، لن نفعل كذا وكذا مما تخافونquot;... وهو امر يبقى طوباوياً ما دام محصوراً في الكلام، لا ينتقل الى السلوك الفردي القابل لأن يترجم سلوكاً جماعياً.. وكيفية حصول ذلك هي الاهم.

كيف، اذاً؟

عندنا ان المطلوب هو اولاً وقبل كل شيء ان يبدّل اللبنانيون نظرتهم الى 14 آذار 2005، فلا يعتبرون ما حصل في ذلك اليوم حداً فاصلاً بين فريق وآخر، بحيث يستمر الكلام عن جماعة 14 آذار أو احزاب 14 آذار أو نواب 14 آذار... كأنما ثمة جماعة اخرى وأحزاب أخرى ونواب آخرون لا ينتمون الى 14 آذار، أو كأنما 14 آذار جرى ضدهم وهم تضرروا به ومنه أو يجب ان يخافوه.

فمن هذه الحدود بالذات يمكن ان يندس الخوف الى الجمهورية اللبنانية، فتنشأ فيها جماعتان: جماعة quot;خوف على 14 آذارquot; وجماعة quot;خوف من 14 آذارquot;. واذذاك يمكن ان تنطلق quot;جمهورية الخوفquot; السورية لتقول انها هنا لتحمي هذه الجماعة من الاخرى وتنصرها عليها.

***

ما هو الموقف الصحيح؟

يجب ان يشعر اللبنانيون، كل اللبنانيين، بأنهم كلهم quot;شعب 14 آذارquot;، فرحون به غير خائفين عليه ولا واجلين. وان 14 آذار حقيقة متمادية، لم تنته في الزمن، مع القرن الماضي، بل هي حيّة معنا في كل واحد منا، وانها هي، لا quot;الخوفquot; كظاهرة نفسية سياسية كما هو الحال في سوريا انها هي جوهر دستورنا ووحدتنا، اكثر مما كان quot;الطائفquot; قد صار، وأقوى مما كان ميثاقنا الوطني يوم الاستقلال.

بل أكثر: التحدي الكبير ان يصير quot;14 آذارquot;، لا ذكراه، بل هو بالذات ككائن حي مستمر ونابض ان يصير 14 آذار ميثاقنا الوطني، لا ينزل أي منا الى الشارع الا باسمه، ولا نحرق دولاب كاوتشوك الا دفاعاً عنه أو نطلق رصاصة الا من منطلقه.

ولا نظن هذا مستحيلاً، لأن هذا كان حال 14آذار في حقيقته المادية والمعنوية، صحيحاً واقعيا لكل من ينظر الى الصورة الآن ويتذكّر ان كل اللبنانيين كانوا هناك حقاً وفعلاً وتلقائياً، وبكل جوارحهم، لم يستقطبهم أحد على حساب أحد، ولم يكلف أحد أحداً نقلهم الى أرض الشهادة في عاصمة الاستقلال وساحة الحرية.

ولم يكن ثمة للخوف موضع في قلب أحد منهم ولا في بصيرته ولا عقله.

ذلك هو الفرق بين الجمهوريتين.

غسان تويني