د. عبدالحميد الأنصاري


في كارثة وصفت بأنها الأسوأ على امتداد مواسم الحج عبر (15) عاماً، حصل تدافع عنيف للحجاج عند مدخل جسر الجمرات الشرقي في ثاني أيام التشريق، فسقط بعضهم وماتوا دهساً، توفي (345) حاجاً وأصيب (289) بينهم وزير الصحة السعودي ، كما توفي بعض رجال الأمن، رحمهم الله جميعا، وفي موسم الحج الماضي، في صباح يوم عيد، حصل تدافع عند الجمرة الكبري، فتوفي (251) حاجاً.
لماذا أصبح سقوط الضحايا في كل موسم حج قدراً لازماً؟! الي متي يستمر المسلمون عاجزين عن تنظيم أداء المنسك الخامس بشكل حضاري مشرف؟! من يتحمل مسؤولية الدماء البريئة؟ تلك أسئلة تؤرق ضمائرنا وتحملنا المسؤولية وتدفعنا للبحث عن حلول ومخارج لعدم تكرار تلك الظروف المأساوية.
ونعلم ان هناك من يطرح هذه الأسئلة ليصطاد في الماء العكر وليُسيس الموضوع ويتخذها ذريعة لإلقاء اللوم علي الدولة الراعية لضيوف الرحمن أملاً في إشراف دولي اسلامي مزعوم علي المناسك، ولكن هيهات ولنحمد المولي علي عدم حصول ذلك وإلا انقلب الحج موسماً سياسياً للصراعات والنزاعات العربية والإسلامية كحال بقية شؤوننا المشتركة العاجز عن حلها قممنا العربية الإسلامية.
نحن نطرح الأسئلة بهدف التشخيص ورصد الأسباب والعوامل التي أدت الي وقوع الكارثة، وأتصور أن هناك (3) عناصر متشابكة تُسهم في تكرار الحوادث المأساوية كل سنة، هي:
1- سلوكيات بعض الحجاج غير الحضارية: وهي سلوكيات ناتجة عن ثقافة متخلفة تسودها روح الأنانية واللامبالاة بالآخرين، (ثقافة التدافع والاقتحام) عندما يعمد بعض الحجاج وفي مجموعة متكاتفة بأجسامهم القوية فيقتحمون الآخرين من الضعفاء وقد يموتون تحت أرجلهم من غير رحمة ويتناسون أنهم في أطهر مكان وبين يدي الرحمن. وقد حصل انه مع حلول الزوال أن بدأت الأفواج تتدفق علي الجسر وكان بعضهم يحمل أمتعته الثقيلة علي ظهره - تعجلا لمغادرة (مني) قبل الغروب - ونظراً للتزاحم الشديد والعنيف سقطت الأمتعة ليسقط بعضهم ويتعثر بها فيأتي أصحاب القامات الطويلة والبنية القوية من الأفارقة وغيرهم ليدهسوا أصحاب البنية الضعيفة والقامات القصيرة من جنوب شرق آسيا فيموت بعضهم ويُصاب آخرون.
2- الجمود الفقهي:
لقد أجمعت المصادر الرسمية ان شدة التزاحم علي الرمي ناتجة عن أمرين:
أ - الإصرار علي الرمي بعد الزوال تمسكاً بالفتوي السائدة.
ب - تعجل معظم الحجاج للخروج من (مني) قبل غروب الشمس وإلا فإنهم يضطرون للمبيت حتي اليوم الثالث ليرموا الجمرات، تمسكاً برأي الجمهور الذي يري وجوب ذلك.
والسؤال الآن ما الذي يدفع الحجاج - الأكثرية منهم - الي الإصرار علي الرمي بعد الزوال وإلي التعجل للخروج قبل مغيب الشمس. إنه جمود الفتاوي الفقهية المتمسكة برأي الجمهور في زمن وظرف غير مناسبين. إذ لا يزال أكثرية الفقهاء المعاصرين لا يجيزون الرمي قبل الزوال أيام التشريق الثلاثة كما أنهم يوجبون المبيت في (مني) علي من لم يستطع الخروج قبل مغيب شمس ثاني أيام التشريق. وفي الأمرين بلاء عظيم، إذ يتحول منسك الرمي الي ساحة معركة رهيبة يسقط فيها الضعفاء، والعجزة والنساء وكبار السن. والله سبحانه هو القائل (وما جعل عليكم في الدين من حرج)، و(فاتقوا الله ما استطعتم) ورسوله يقول (يسّروا ولا تعسروا) فأين هؤلاء الفقهاء من مقاصد الشريعة العليا في صيانة أرواح الناس؟!. وإذا كان الرسول صلي الله عليه وسلم قد أذن لذوي الحاجة بالرمي قبل الزوال وبعدم المبيت في مني فلماذا التشدد الآن ونحن في ظرف أشد حاجة للتخفيف علي الحجاج؟!.
رحم الله الشيخ عبدالله بن زيد آل محمود - رئيس المحاكم الشرعية في قطر - لجرأته المحمودة في انتصاره ودفاعه عن مذهب القائلين بجواز الرمي قبل الزوال مطلقاً وبعدم تحديد شمس الغروب سقفاً للرمي.يقول رحمه الله في رسالته التي سماها (يسر الإسلام في أحكام حج بيت الله الحرام) وقد حرّرها في شعبان عام 1392ه (إن هذا التحديد - رمي الجمرات - بما بين الزوال الي الغروب، ليس له أصل من الكتاب، ولا من السنة ولا القياس ولا الإجماع، فلا تجوز نسبة القول به الي الشرع مع عدم ما يدل علي صحته) ولا شك أن في اطالة وقت الرمي سعة للحجاج تخفف من تزاحمهم وتدافعهم. وهو يشير رحمه الله الي ان هذا التحديد - ما بين الزوال الي الغروب - كان اجتهاداً من الفقهاء في القرن الثاني الهجري وأخذ بعضهم ينقل عن بعض القول به حتي ظن بعضهم أن هذا حكم عام لازم مع أن ذلك ليس بلازم ولا خلاف في أنه (وقت فضيلة) فليكن ما قبل الزوال والليل (وقت إباحة) والحالة الآن ضرورة توجب إعادة النظر فيما يزيل الضرر ويؤمن الناس مخاوف خطر الزحام والسقوط تحت الأقدام وهي تزداد عاماً بعد عام. وكيف لا نقول بالجواز وبعض الحنابلة والشافعية - قديماً - ذهبوا الي القول بأنه لو جمع الجمار كلها بما فيها (عقبة العيد) فرماها في اليوم الثالث أجزأته، لأن أيام (مني) كلها كالوقت الواحد؟! وكيف نمتنع وقد قال بالجواز طاووس وعطاء والرافعي وأبوحنيفة وابن الجوزي ورواية عن أحمد؟!
إن علي مجامعنا الفقهية وكليات الشريعة سرعة تبني هذا الرأي - قولاً واحدا - وحسم القضية لمصلحة المسلمين، لا حرج في الرمي في أية ساعة من أيام التشريق ليلاً أو نهاراً، ولا مبيت علي متعجل في يومين وإن أدركته شمس مغيب (مني) ما دام علي نية الخروج والنفرة. وإذا كانت سلوكيات بعض الحجيج لن تتطور ولن ترتقي الي المستوي الحضاري الإنساني بما يجعلهم يتراحمون ويساعد بعضهم بعضاً لأنهم من بيئات وثقافات شتي فلا أقل من أن تتطور الفتاوي الفقهية الي ما فيه رحمة بالمسلمين وذلك أضعف الإيمان.
3- ضيق المكان: السلطات السعودية وضعت مشروعاً هندسياً تطويرياً شاملاً لمنطقة الجمرات وهو يشكل حلاً جذرياً يقوم علي تفتيت الكتلة البشرية الي مداخل متعددة وإنشاء أنفاق سريعة وتعدد الطوابق وتطوير شكل الحوض والشاخص من الدائري الي البيضاوي، والمشروع قيد التنفيذ وهو يستغرق زمناً وقد أنجز بعضه.
ولعلّ في تطوير الحلّين: الفقهي والهندسي ما يعطينا الأمل في تجنب الحوادث المأساوية مستقبلاً حيث آمل في تطوير سلوكيات بعض الحجاج مطلقاً.


كاتب قطري