كتب ايلي الحاج:
قفزت الى ذهني صورة جبران تويني عندما تلقيت نبأ وفاة امير الكويت الشيخ جابر الاحمد، ولم اعرف لماذا. ربما لأنه كان يحدثني كلما طرأ جديد يخص تلك الامارة، او لأنه يعرف كما اعرف الى اي درجة يحبونه هناك حبا، وربما لأنني قصدا، لم اكتب عنه كلمة، رافضا فكرة ان يكون ما حدث له قد حدث فعلا. مئات وآلاف المرات مرت امام عيني كلمة quot;الشهيدquot; قبل اسمه فيما احرر quot;وأُعنوِنquot; اخبارا ومقالات عنه، فأتعامل معها، مهنيا ولا اصدق انه لن يفتح باب quot;النهارquot; الزجاجي مبتسما مصافحا، انيقا جميلا كعادته. احتاج الى عمر آخر لأصدق.
quot;بالنسبة الينا نحن الكويتيين، ممثل لبنان واللبنانيين الحقيقي هو جبران توينيquot;. كان ذلك عام 2003 بعيد الهجوم الذي شنته قوات التحالف الدولي في 20 آذار بقيادة الولايات المتحدة على العراق لخلع نظامه السابق ورئيسه صدام حسين، الذي اقدم جيشه من غير مبرر على قصف الكويت بصواريخ عشوائية، مما دفعها الى تقديم شكوى لدى جامعة الدول العربية التي اجتمع مجلس وزراء خارجيتها استثنائيا في القاهرة، الاثنين 24 آذار، محاولا تلمس دور ما للجامعة.
ولسوء الحظ كانت رئاسة الجلسة للبنان الواقع تحت الهيمنة السورية الكاملة في تلك الحقبة، بصفته رئيس القمة العربية، ومثَّله وزير خارجيته آنذاك محمود حمود الذي كان يتلقى الاوامر بما عليه فعله مباشرة وعلناً امام نظرائه الحاضرين من وزير الخارجية السوري، لا غيره، فاروق الشرع، ما دفع وزير الخارجية المصري السابق الى التوجه بالعامية المصرية الى الوزير اللبناني: quot;انا بكلمك يا محمود، بُصِّلي (انظر اليّ) ما تبصش لفاروقquot;. لكن وزير خارجيتنا اصر على رفع الجلسة للحؤول دون طرح الشكوى الكويتية بناء على اوامر الوزير السوري الذي لم يتطلع حمود الى غيره.
استشاط غضبا وزير الدولة الكويتي للشؤون الخارجية الشيخ محمد الصباح لموقف حمود غير المتوقع. ولربما تذكر ان لبلاده افضالا لا تُنسى على لبنان، وان موقف وزير خارجيته لا يمكن وصفه بأقل من الجحود ونكران الجميل. وعندما سأله صحافيون بعد الجلسة الصاخبة، والمعيبة، عن دور سوريا في الامر اجاب: quot;أليس لبنان دولة حرة ذات سيادة ويتحمل تاليا مسؤولية ما حصل؟quot;.كان يعرف الشيخ محمد بالتأكيد ان لبنان ذلك الوقت لم يكن دولة حرة ذات سيادة ولا يتحمل تاليا مسؤولية ما حصل، لكنه اراد ان يحفظ للبنانيين على الارجح بعض كبرياء وماء وجه. كان يعرف لأن لا احد مثل الكويتيين يدرك مشاكل لبنان مع جارته بحكم الشبه في التعقيدات الناتجة من الجغرافيا والتاريخ والعقيدة، بين الكويت والعراق، وبين لبنان وسوريا.
في ذلك الوقت كان جبران تويني في الكويت، ضيفا شبه دائم على التلفزيون والاذاعة ، في الصحف وعلى المنابر مناصرا حق البلد الصغير كلبنان في الامن واحترام سيادته واستقلاله وحقه في الحياة، داعيا الى سقوط نظام الطغيان الذي ساد طويلا في العراق بعدما انزل في شعبه وجيرانه صنوفا من الاهوال والجرائم. تحدث عن سقوط تشاوشيسكو وميلوسيفيتش، عن سقوط جدار برلين، عن الانظمة التي وضعت شعوبها في سجون كبيرة لا بد من ان يأتي يوم وتفتح ابوابها للحرية. فقال الكويتيون في ديوانياتهم وصحفهم ان ممثل لبنان واللبنانيين الحقيقي هو جبران تويني، وليس الوزير حمود. فأنقذquot;الاستاذ جبرانquot; صورة لبنان في الكويت التي لم تكنّ لبلادنا الا الود والمحبة والخير.
ولمن فاته الامر يعيش على ارض الكويت نحو 40 الف لبناني يساهمون في اعمار وطنهم واقتصاده بتحويلاتهم، ويحظون في الكويت بمختلف مواقع التأثير، اقتصاديا واعلاميا وخدماتيا على وجه الخصوص، فضلا عن انهم ينعمون باحترام كبير، كما ان القروض والهبات المقدمة الى لبنان من الحكومة الكويتية والصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية، والذي اسسه الامير الراحل جابر الاحمد، اكثر من ان تحصى وعلى مدى بعيد من الزمن، تقدر بمليارات الدولارات.
وتنوعت اشكال الدعم الكويتي، فمن انشاء طرق وتأهيلها وتحديث شبكات المياه والكهرباء والهاتف الى مختلف مشاريع الاعمار واعادة بناء في كل مناطق لبنان، ما يجعل المرء يأسف لكون فرصة لرد الجميل سياسيا لاحت في اجتماع القاهرة وأضاعها حمود وخلفه الشرع على لبنان، مما فرض على جبران تويني التحرك لتدارك الموقف الذي كاد يتحول سوء تفاهم وعلاقات بين البلدين.
quot;نبوءةquot; الشيخ صباح
وعلى المستوى السياسي تجلى اهتمام الكويت ولهفتها على لبنان في المساعي التي بذلتها مرارا لاهماد نار الحرب على ارضه من يوم اندلاعها عام 1975، فلم تشكل لجنة وساطة عربية، الا كان تحديدا رئيس الحكومة الكويتية الحالي الشيخ صباح الاحمد الصباح عضوا رئيسيا فيها، وكان دوره بارزا على نحو خاص في quot;اللجنة السداسيةquot; التي تشكلت خلال quot;حرب التحريرquot; عام 1989 في تلك المرحلة توثقت علاقة الشيخ شقيق الامير الراحل بجبران تويني وظل متابعا للوضع اللبناني وتطوراته من كثب. وعندما زار وفد من الرابطة المارونية برئاسة النائب الراحل بيار حلو الكويت عام 2002 ابلغ اليه الشيخ صباح، في حديث بالامانات، انه يتوقع ان تسحب سوريا جيشها من لبنان في السنة 2005! لذا ينصح للبطريرك الماروني الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير quot;ولقاء قرنة شهوانquot; بالا يركزوا كل مواقفهم على هذه المسألة لانها في حكم المحققة بحكم مسار الاحداث، وسوريا لن تستطيع البقاء اكثر في لبنان.
وتحققت رؤيته، إنما في ظروف مختلفة واكبتها الكويت بكل عواطفها، والدليل انها البلد الوحيد صحافتها تغطي احداث لبنان وتطوراتها السياسية في مانشيتات صفحاتها الاولى، وتنافس حتى صحافته على الخبر اللبناني. وكثر من السياسيين والصحافيين اللبنانيين يحرصون على الاطلاع عبر الانترنت مع قهوة الصباح على ما تورده صحف الكويت عن لبنان ومشكلته مع سوريا. وقد يقول قائل ان السبب عائد الى كون مديري التحرير في الصحف الكويتية الاساسية هم لبنانيون، لكن في ذلك تحجيما للأسباب الواقعية. وهي ان كثيرين من الكويتيين يمتلكون منازل وعقارات في لبنان ولهم صادقات وعلاقات فيه او بلبنانيين في الكويت، وان مشكلة الجغرافيا التي ظلمتهم بجعل بلادهم مجاورة لبلد لا يعترف بوطنهم تجعلهم يفهمون اساس مشكلة لبنان، فلطالما اعتبر العراق وسوريا ان الكويت ولبنان كيانان مصطنعان خلقهما الاستعمار ورفضا الاعتراف بهما، بفارق ان ثمة تمثيلا ديبلوماسيا بين الكويت وجارها، وان لم يمنعه من الانقضاض عليها في 2 آب 1990. ويومها لام الرئيس السوري الراحل حافظ الاسد نظيره العراقي الذي يجمعه به quot;البعثquot;، قال quot;ليس هكذا...quot;، مقدما نموذجا لتصرفه مع لبنان الذي بات تحت احتلال جيشه من دون ان يقدر ان يرفع صوته طالبا النجدة.
quot;بعثquot; هنا وquot;بعثquot; هناك، وحكم عسكر في الجوار لا ينفك يتطلع الى الجار الصغير المزدهر بشهوة الافتراس، العامل هذا وحده كاف لتفهم الضحية زميلتها الضحية الاخرى. ولطالما ردد كويتيون لاصدقائهم اللبنانيين: الفارق بيننا وبينكم ان في ارضنا بترولاً، لذلك هرع الغرب الى نجدتنا، اما انتم فعليكم بالصبر. قدر لبنان ان لا بترول فيه، مع ذلك افاد من الفورة النفطية في دول الخليج كأنه بلد نفطي، على ما كتب مروان اسكندر، بفضل ابنائه العاملين في تلك الدول، ولا سيما الكويت، الذين انقذهم جبران تويني من تصنيفهم رعايا دولة quot;ضدquot;، اي معادية او مناهضة للكويت، نقيض لدول الـquot;معquot;، اي الدول التي لم تؤيد الاحتلال الصدامي للامارة الوادعة. والاختلاف في التعامل بين رعايا هذا الصنف من الدول وذاك، لم يكن يُقاسي، واخذ في التقلص منذ خلع صدام ونظامه. ويقتضي التنويه في السياق بخدمة جلى اداها الرئيس الدكتور سليم الحص للبنانيين المقيمين في الكويت باندفاعه العفوي الى استنكار العدوان الصدامي وشجبه والتنديد به. كان لبنان في ظل حكومتين ذلك الوقت، لكن الكويتيين لن ينسوا ان اول مسؤول عربي ايد حقهم ودعم موقفهم في عز محنتهم هو رئيس حكومة لبنان. وعندما قصفت اسرائيل عام 2001 محطات تحويل كهربائية في جنوب لبنان وشماله وجبله، نشرت صحف الكويت في اليوم التالي اعلاناً كبيراً، مجانياً، على صفحاتها الاولى، تدعو فيه سفارة لبنان الى التبرع لتصليح المحولات. واقبل الكويتيون مثل اللبنانيين واكثر على العطاء ولسان حالهم: وقفتم بجانبنا، اقله ان نقف بجانبكم... ثم نحن نحب لبنان فعلاًquot;. عبارة سمعتها وغيري كثر في الكويت تلك المرحلة، وتفسر لماذا اخبار لبنان في المقدمة والواجهة عند الكويتيين، لماذا يبنون مستشفى في تنورين ومستشفى في النبطية على سبيل المثال ويقدمونها هبة لابناء مناطق مهملة فقيرة عاشت الحرمان منذ اجيال، ولماذا يعمرون قرى بأكملها دمرها الاحتلال في الجنوب ويصرفون عبر صندوق التنمية الكويتي اموالاً طائلة على مشاريع في لبنان، ويقدمون ثاني اكبر منحة في مؤتمر باريس 2 ولا يردون يوماً طلباً لوطن الارز، ويقصدونه اكثر من اي بلد آخر للسياحة، واذا زارهم احد المسؤولين اللبنانيين يعاملونه كرئيس دولة وان لم يكن بهذه المرتبة غير عابئين بالبروتوكول لان اللبناني عندهم quot;غير عن الجميعquot;.
نكتب الكويت ونقصد الشيخ جابر الاحمد الصباح، الامير الذي عرف ان يكون وديرته واحداً، فدانت له بالمحبة، وكان موجهها ومرشدها وقائدها، فلم يتركها ولم تتركه يوماً، لا في اليسر ولا في العسر.
عندما دخل جيش صدام الكويت لم يجد اسماً واحداً معروفاً يحكمه باسمه على الكويت. هكذا يكون الولاء والحاكم الذي يتعلق به شعبه.