د. خالد الدخيل
للمرة الثانية يتناول وزير الخارجية السعودي، الأمير سعود الفيصل، السياسة الخارجية الإيرانية وتأثيراتها على المنطقة بطريقة اتسمت بدرجة كبيرة من المباشرة والوضوح (المرة الأولى كانت في شهر سبتمبر الماضي)middot; وللمرة الثانية، منذ تولي الملك عبدالله بن عبدالعزيز مقاليد الحكم في السعودية، يعلن وزير الخارجية الموقف السياسي للحكومة السعودية من قضية ساخنة بطريقة تخلو من المواربةmiddot; ما قاله الأمير سعود عن التدخلات الإيرانية في العراق أصبح معروفا، وقد كرره مرة أخرى في حديثه الأخير إلى كل من تلفزيون الـ''بي بي سي''، وصحيفة الـ''التايمز'' البريطانيةmiddot; الجديد فيما قاله الأمير هو تعبيره عن مخاوف حقيقية من المشروع النووي الإيراني، سواء كان هذا المشروع بغرض امتلاك سلاح نووي، أو لمجرد إنتاج طاقة نووية لأغراض سلميةmiddot; ولم ينس وزير الخارجية السعودي تذكير الغرب بمسؤوليته عن الأزمة التي يواجهها الآن بسبب الطموح النووي الإيرانيmiddot; حيث إن الغرب هو الذي ساعد إسرائيل في بناء ترسانتها النووية، مما فتح الباب أمام سباق التسلح في المنطقةmiddot; وقد أشار الأمير سعود إلى ازدواجية الموقف الغربي عندما قال لصحيفة التايمز ''لا أحد يذكر بأن إسرائيل تملك مئة سلاح نووي في مخزونها، رغم أن هذا أصبح سرا مفضوحا''middot; لكن الأمير في الوقت نفسه طلب من إيران التخلي في كل الأحوال عن برنامجها النووي، والانضمام إلى دول مجلس التعاون الخليجي في جعل المنطقة خالية من أسلحة الدمار الشاملmiddot;
حديث وزير الخارجية السعودي حمل مخاوف حقيقية لم يتردد في التعبير عنهاmiddot; هل هناك ما يدعم هذه المخاوف السعودية؟ بعبارة أخرى، هل إيران في طريقها إلى امتلاك السلاح النووي؟ أم أن كل ما تريده إيران هو امتلاك التكنولوجيا النووية لأغراض سلمية، وأنها لا تفكر، بل وليست في حاجة للسلاح النووي، كما يؤكد القادة الإيرانيون؟ بعيدا عن الأساس التقني لهذا الخلاف، وعن المبررات السياسية لكل طرف في هذه الأزمة، هناك مجموعة من المعطيات والمؤشرات ترجح بأن خيار القيادة الإيرانية استقر على امتلاك السلاح النوويmiddot; لابد أولا من محاولة التعرف على المشهد الإقليمي الذي يبدو أنه مبعث لهواجس أمنية، ومنطلق لطموحات سياسية تحرك السياسة الخارجية الإيرانية حيال هذا الموضوعmiddot;
أول شي ء تجب ملاحظته هنا أن إيران تفتقد إلى عمق إستراتيجي يجعل من الأمن هاجسا ملحا بالنسبة لهاmiddot; ثانيا أن إيران تخضع لقيادة أيديولوجية، مما يضيف إلى الهاجس الأمني طموحا سياسيا للهيمنةmiddot; طموح الهيمنة هذا يمثل بالنسبة للقيادة الإيرانية أفضل خط للدفاع في وجه ما تعتبره مخاطر كبيرة في أعقاب الأحداث الضخمة التي حصلت في المنطقة منذ نهاية الحرب الباردة، والغزو العراقي للكويت، ثم سقوط النظام العراقي على يد القوات الأميركيةmiddot; في هذا الإطار تبرز مجموعة من المعطيات يبدو أنها أكثر من غيرها تدفع بإيران للسير حثيثا على طريق الخيار النوويmiddot;
الأرجح أن قرار إيران بتبني الخيار النووي اتخذ إما بعد نهاية حربها مع العراق عام ،1988 أو بعد الغزو العراقي للكويت، وما ترتب عليه من تداعيات غيرت المشهد السياسي والأمني لمنطقة الخليج العربي بشكل غير مسبوقmiddot; فهذا الغزو جاء بالوجود العسكري الأميركي بشكل كثيف، وهو وجود كانت الولايات المتحدة تطمح إليه منذ نهاية الحرب العالمية الثانيةmiddot; بعد حرب تحرير الكويت التي قادتها الولايات المتحدة، قامت هذه الأخيرة ببناء حزام عسكري استراتيجي يطوق الخليج العربي، وهو حزام يمتد من جنوب الخليج إلى تركياmiddot; وإذا أضيف إلى ذلك القوة العسكرية الإسرائيلية، حليف الولايات المتحدة الاستراتيجي، يمكن القول بأن الحزام العسكري الأميركي يمتد إلى غرب المنطقةmiddot;
ثم جاء الغزو الأميركي للعراق ليجعل الوجود العسكري الأميركي على حدود إيران الجنوبية مباشرةmiddot; هنا تبرز مسألتان مهمتان: المعادلة الأمنية لمنطقة الخليج، وموقف إيران من الغزو الأميركي للعراقmiddot; الذي يهمنا هنا هو المسألة الأخيرة، والتي تبدو للبعض محيرةmiddot; فالذي جاء بالغزو الأميركي للعراق هم حلفاء إيران العراقيون، وتحديدا ''المجلس الأعلى للثورة الإسلامية''، و''حزب الدعوة الإسلامية''middot; ومن هذه الزاوية لم تعترض إيران على الاجتياح الأميركي، لأنه حقق لها هدفا مهما، وهو إسقاط النظام العراقي، أو عدو إيران اللدودmiddot; الأهم من ذلك أن الغزو الأميركي فتح الطريق ولأول مرة في التاريخ، أمام ''الأكثرية'' الشيعية في العراق في أن تتولى حكم هذا البلد بعد قرون من حكم السنة لهmiddot;
ما الذي قد تستفيده إيران، إلى جانب سقوط صدام حسين، من الغزو الأميركي للعراق؟ أول شيء سوف تستفيده هو إعادة كتابة تاريخ العراق، وإعادة صياغة جواره الجغرافي معهاmiddot; إيران الآن أمام عراق شيعي يشترك معها في المنطلقات الأيديولوجية، ومن ثم قد يكون ذلك بداية تاريخ جديد من التعاون والتحالف بينهما يحل محل ما قبله من تاريخ كان مليئا بالصراعات والمؤامرات والحروبmiddot; لن يخرج الأمر كثيرا عن ذلك سواء انتهى الاحتلال الأميركي بتوحد العراق، أو انتهى بتقسيمهmiddot; يبدو الاحتمال الأخير هو الأرجح في ضوء مظاهر المقاومة والإرهاب التي تزداد مع الوقت، وفي ضوء الانقسامات الطائفية (سنة وشيعة)، والإثنية (عرب وكرد) التي تشكل أساس العمليات والصراعات السياسية في العراق الجديدmiddot;
في حالة حافظ العراق على وحدته واستقراره، فهذا سيكون في صالح إيران، لأن النخبة السياسية الحاكمة ستكون مشابهة، أو ربما امتدادا للنخبة الإيرانية، من حيث أنها نخبة تشترك معها في الالتزام بالأيديولوجيا الدينية للمذهب الشيعي، الأمر الذي سيوفر أرضية قوية للتفاهم والتحالف بين الطرفينmiddot; أما في حالة فرض التقسيم نفسه على العراقيين، فالأرجح أن يكون جنوب العراق، بأغلبيته الشيعية، تحت هيمنة النفوذ والحماية الإيرانيةmiddot; ومن ثم فإنه في كلتا الحالتين، الإنقسام أو التوحد، سيوفر العراق الجديد، أو عراق ما بعد الاحتلال، لإيران، ما تفتقده من عمق استراتيجي هي في أمسِّ الحاجة إليهmiddot; لكن إيران من ناحية ثانية، لا تستطيع جني ثمار ما تحبل به تغيرات المشهد السياسي في العراق من دون أن تكون هي قوة إقليمية فاعلة، ولها ثقل في توازنات القوة التي تؤثر على مجرى التغيرات التي تعصف بالمنطقة ككلmiddot; إيران تملك الأيديولوجيا، وتملك المال، وتملك الجوار المباشر مع العراقmiddot; لكنها في الوقت نفسه في مواجهة مقاومة سنية داخلية، ورفض عربي لتدخلاتها في العراقmiddot; وهي أيضا في مواجهة وجود أميركي بكل ما يملكه من قوة ونفوذ إقليمي ودولي، وفي مواجهة منافسة إسرائيلية في التدخل والنفوذ، فضلا عن تركياmiddot; إلى جانب ذلك، يأتي العداء المستحكم بين إيران والولايات المتحدة، والذي أخذ مؤخرا بعداً أيديولوجياً مضاعفاً بوصول المحافظين الجدد إلى البيت الأبيضmiddot; لطالما شعرت حكومة الفقهاء في طهران بأنها مهددة من قبل واشنطن، وهي تدرك مخاطر الطوق الأميركي المحيط بها من الشمال والجنوبmiddot;
تحتاج إيران إلى السلاح النووي أولا للتعويض عن فقدانها للعمق الاستراتيجي، ولمقاومة الطوق الأميركي، ولتكون في موقع يفرض أخذ مصالحها في الحسبان عند تسوية الأوضاع في العراق، وتسوية العلاقات بين سوريا ولبنانmiddot; تطمح إيران إلى أن يصبح العراق عمقها الجغرافي الذي تفتقدهmiddot; كذلك تطمح إلى تعزيز موقعها كقوة ذات نفوذ في العراق، وأن تصبح الراعية لحلفائها هناك بعد رحيل الأميركيينmiddot; من ناحية أخرى، تعمل إيران على التأسيس لقدراتها على تقاسم الهيمنة مع إسرائيل على المنطقةmiddot; وهي لا تستطيع أن تفعل أي شيء من ذلك من دون أن تكون قوة نوويةmiddot; إلى جانب السلاح النووي، تحتاج إيران إلى شعار أيديولوجي يؤسس لطموحاتها السياسيةmiddot; وهذا ربما ما يفسر إصرار طهران على إعادة طرح مشروعية الدولة العبرية، وموضوع ''الهولوكوست''middot; وهذه أطروحات لها وجاهتها وشعبيتها، خاصة في العالم العربيmiddot; إيران هنا تريد توظيف أهم قضية عربية لصالح طموحاتها السياسيةmiddot; وقد دعت مؤخرا إلى مؤتمر دولي لإعادة دراسة موضوع ''الهولوكوست''middot;
إذن مخاوف وزير الخارجية السعودي لها ما يبررهاmiddot; بتبنيها للخيار النووي في سياستها الخارجية، تدفع إيران بالمنطقة نحو أزمات أخرى، ليس فقط مع الغرب، بل مع دول المنطقة ذاتها، عربية وغير عربيةmiddot; فيما لو نجحت إيران في مسعاها سيجد العرب أنفسهم أمام قوة ثالثة إقليمية تمارس ضغوطها عليهم إلى جانب قوة الولايات المتحدة وإسرائيلmiddot; السؤال: ما هي فرص نجاح إيران في تحقيق طموحها النووي؟
التعليقات