أوضح في كتابه الجديد quot;عامي في العراقquot;
بريمر: الفوضى في العراق شملت كل شيء وأخطاؤنا استراتيجية والانسحاب هزيمة ونصر للإرهابيين
المخاطبات مع تشيني تكشف أن الدبلوماسية الأمريكية تقول شيئاً لنفسها وتقول شيئاً آخر لوسائل الإعلام
الدمام ـحبيب محمود
يدّعي بول بريمر أن الانسحاب العسكري من العراق أو جدولته يعنيان ارتكاب خطأ تاريخي يسمح للإرهابيين بالانتظار قليلاً للقيام بدور خطير، وهو ـ أيضاً ـ إعلان هزيمة للولايات المتحدة. ولذا لا يختلف موقفه من البقاء في العراق عن موقف الإدارة التي نصّبته مسؤولاً مدنياً ومنحته عاماً من الحياة وسط أحداث متشابكة، سياسياً وأمنياً.
وفي كتابه الصادر منذ أيام quot;عامي في العراق.. تحدي بناء مستقبل مليء بالأملquot; عن مؤسسة Schuster amp; Simon يرى أن الانتخابات العراقية التي أجريت في يناير 2005 دليل على قبول العراقيين لتحدي بناء دولة عصرية ديمقراطية حديثة. ويقول بريمر إن أسعد أيامه في العراق كان يوم 14 ديسمبر 2003، وهو اليوم الذي قُبض فيه على الرئيس العراقي السابق صدام حسين، مشيراً إلى أن كل أيامه الأخرى كانت حياة توتر وتوقع لتعقيدات متعددة ومقلقة.
سيرة أمريكية
لم يدّخر بول بريمر وقتاً لتفويت فرصة الذاكرة والانخراط في موضة quot;السيرةquot; التي تكاد تكون ـ بل هي فعلاً ـ صناعة أمريكية بمفهومها الحديث. وهي صناعة أمريكية لأن quot;السيرة الذاتيةquot; لم تتحوّل إلى quot;مادة تجاريةquot; إلا في العصر الأمريكي. وأصبح بإمكان السياسيين، اليوم، أن يدّخروا ذاكرتهم لمشروع quot;سيرة تجاريةquot; بعد انتهاء مهامهم السياسية مباشرة، ولم يعد عليهم الانتظار حتى تتحوّل التجربة إلى تاريخ، كما يفعل السياسيون في الزمن السابق..!
وبول بريمر يعرف أن للذاكرة ثمناً مادياً مذ وطأت قذائف الطائرات سقف بغداد في مايو 2003، وحين دخل العاصمة المحاصرة، قبلاً، بتماثيل الدكتاتور، لم يجد أمراً أصعب من تنصيب أسماء جديدة منسوبة إلى القوى العراقية البديلة، ليكون اسمها quot;مجلس الحكم المؤقتquot; تمارس صناعة واقع جديد سوف يتذكره بريمر لاحقاً ويدونه في كتابه. وهنا تفعل الذاكرة فعلها لتقدّم وجهة النظر الأمريكية مطعّمة ببعض النقود والتوصيفات الواقعية لتظهر سيرة بطل الكاوبوي quot;شهادة حالquot;.
يحمل بول بريمر ملف موظف مرموق في الدبلوماسية الأمريكية، فهو يحمل البكالوريوس ودبلوماً عالياً في العلوم السياسية والماجستير في إدارة الأعمال، ويستند إلى 23 عاماً من العمل الدبلوماسي، من بينها منصب المساعد التنفيذي والمساعد الخاص لستة من وزراء الخارجية. وعيّنه الرئيس رونالد ريجان سفيراً متجولاً لمكافحة الإرهاب، وبعد تقاعده من العمل الحكومي انضم إلى شركة كيسينجر أسوشيتس الاستشارية التي يملكها وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كسينجر. وقبل أن يُنصّب رئيساً للإدارة المدنية في العراق كان بريمر يرأس شركة استشارية تقدم خدمات للشركات لمساعدتها على التعامل مع الأزمات أو التعافي منها. واستناداً إلى مواقفه من الإرهاب، ومقالاته التي نشرها بعد أحداث 11 سبتمبر وتبنى فيها مقولة: quot;علينا أن نكون البادئين بالهجومquot;، وضع بريمر نفسه في دائرة الاختيار ليواجه الأزمات المحتملة في العراق بعد دخول القوات المتعددة الجنسية إليها احتلالاً.
البداية: فوضى
وقد واجه المسؤول الأمريكي حالة الفوضى قبل وصوله، وهو يقرّ بذلك إقراراً يدين الإدارة الأمريكية، وهي فوضى شملت كل شيء، بدءاً من أعمال السرقة والنهب وانتهاءً بالرصاص الأمريكي الذي فتك بأبرياء لا صلة لهم لا بالإرهاب ولا بالمقاومة. وظهرت فيه الولايات المتحدة quot;بلا قوةquot;، حين كشفت التغطيات الإعلامية عن واقع من الصعب تفسيره على نحو آخر. وهي الفوضى ذاتها التي أملت على الإدارة الأمريكية أن تتخذ قرارات خاسرة بنفسها، كحل الجيش العراقي، وحل حزب البعث بقرار أمريكي، في حين أن بول بريمر، عينه، يقول quot;كان يجب أن تناط هذه العملية بجهة قضائية محايدةquot;، مع إقراره بأن عملية اجتثاث البعث quot;كانت ضروريةquot;.
واجه بريمر الفوضى مواجهة تشير إلى الكثير من الأخطاء السياسية والميدانية. ولم يكن يتوقع الأمريكيون والعراقيون القادمون معهم أن تتسع رقعة المقاومة على النحو الذي ظهر، كما لم يتوقعوا استمرار المقاومة إلى هذا الحد. ولم تكفِ الأعداد الكبيرة من الجنود والعتاد للسيطرة على الوضع الأمني. وهو يتفق، تماماً، مع الخبراء الاستراتيجيين الذين نصحوا الإدارة الأمريكي بأعداد تفوق الأعداد التي دخلت العراق بعد العمليات العسكرية الرئيسية. كما أن الإجراءات البيروقراطية تدخلت، سلباً، لتضيف إلى الفوضى عاملاً آخر، إذ إن البطء الذي اتسمت به انسحب، طردياً، على أعمال إعادة الإعمار، بوصفها مشاريع تمسّ احتياجات المواطن العراقي وتخفف من مخاوفه إزاء النوايا الأمريكية. وما تحقق، في الشارع، العراقي تبعاً لهذه الأخطاء هو استمرار معاناة العراقيين في بلادهم وتفاقم أزماتهم، حدّ انعدام الفرق بين الحالة العراقية في عهد البعث وبينها بعده. وهذا ما لم يعترف به خبير الإرهاب الدولي بقلمه، ومن المتوقع ألا يدخل موقفه هذا أي تعديل لاحق.
الإدارة تتجاهل
من اللافت أن الحاكم المدني يكشف عن تجاهل الإدارة الأمريكية لمطالبه التي كان بإمكانها مساعدته في مواجهة الحالة الجديدة. وبالذات تجاهل وزير الدفاع دونالد رامسفيلد الذي تسلّم منه رسالة عاجلة دون أن يكلف نفسه عناء الرد، في الوقت الذي جندت فيه الولايات المتحدة 1400 خبير لإنقاذ مصداقيتها في دعوى أسلحة الدمار الشامل، دون أن تنجح. ومع تفاقم الأحداث الميدانية لم يجد بريمر بداً من مكاشفة نائب الرئيس ديك تشيني، في خطاب رسمي أرسله في نوفمبر 2003، بأن دولته لا تملك استراتيجية عسكرية واضحة للنصر، والغريب أن يتفق تشيني معه في هذا المذهب الخطير ضمن رد رسمي، في حين أن الإعلانات السياسية التي تبثها وسائل الإعلام عن نائب الرئيس تقول العكس تماماً. وهذا يعني أن الدبلوماسية الأمريكية كانت تقول شيئاً لنفسها، وتقول شيئاً آخر لوسائل الإعلام، في حالة من التناقض، وها هي تؤول يومياً، إلى مضاعفة الأزمة في الشارع العراقي حتى بعد تقدم العملية السياسية وانتقال السلطة.
هذه الحقائق الميدانية كان يمكن لبريمر أن يتنبأ بها فور إحساسه بجوّ العراق الشديد الحرارة في مايو.. وهو، نفسه، تساءل: quot;إذا كان الحر شديدا الآن في مايو، فماذا عن أغسطس؟!quot;، ويبدو أن الحرّ العراقي لا فصل له، فهو استمرّ في الغليان، ولا يزال، ولم تزد القرارات الحاسمة التي اتخذتها الإدارة الأمريكية على لسان بريمر الجوّ العراقي إلا حرارة، بصرف النظر عن فصول الأحداث السياسية، وتداول السلطة بين أفراد مجلس الحكم الذي ولّفه توليفاً وأجلس أعضاءه المختلفين تحت سقف واحد..!
المجلس المختلف دائماً
مجلس الحكم نفسه كان المنطقة الأكثر حرارة في الغليان السياسي العراقي، وهو غليان سبق تأسيس المجلس واستمرّ معه في مشهد خلافات شديدة في كل شيء. وقد تحدث بريمر كثيراً عن هذا المجلس، وسخر من أعضائه الـ 25 الذي استمروا في التنازع في كل كبيرة وصغيرة من قضايا العراق. وللغرابة فإنه يستثني مسألة واحدة من الاختلاف، هي مسألة المخصصات المالية التي يحصل عليها كل منهم. فكل واحد منهم خُصص له 50 ألف دولار في السنة و 5 آلاف دولار شهرياً مصروفات بنزين..! هذه المسألة لم يختلف أعضاء مجلس الحكم فيها مطلقاً، إلى حدّ أن بريمر احتاج فيه إلى معاونيه ليشرحوا للأعضاء أن 5 آلاف دولار تكفيهم لقطع 50 كيلومترا شهرياً. وإذا صحّ ادعاء بريمر فإن هذه النقطة تكشف عن مفارقة غريبة في الواقع العراقي الذي بدا فيه أعضاء مجلس الحكم الموقت معنيين بالشأن العراقي الوطني في وسائط الإعلام المحلية والعربية والدولية.
وعلى الرغم من أن ذاكرة بول بريمر مليئة بالتفاصيل، فإن ما ركّز عليه الحاكم المدني، طبقاً لعرض للكتاب بثه الموقع العراقي quot;ألف ياءquot;، هو الكشف عن صورتين متقابلتين في واقع العراق الذي تلا سقوط النظام السابق، الصورة الأولى تعددت تفصيلاتها في القصر الذي عاش فيه بريمر متصلاً بإدارته التي اختارته ليكون حلقة وصل بين الوزارتين المتصادمتين: الدفاع والخارجية، والصورة الأخرى اتصلت بتشابك الأحداث الميدانية والتصادم السياسي في العراق بين أجنحة الحكم إلى أن انتهى الأمر إلى الانتخابات الأولى، وتسليم السلطة. وهو ـ في عمومه ـ جزء من الرؤية الأمريكية لعراق ما بعد صدّام من منظور ما حدث، ومنظور ما يتمناه الداعون إلى البقاء في العراق. إلا أنه ـ من وجهة نظر أخرى ـ يحمل مفردات حساسة ضدّ الإدارة الأمريكية لم يتمكن بول بريمر الشديد الولاء للصقور من طمسه، فالواقع العراقي ما يزال يشهد ضدّ الإدارة الأمريكية.
التعليقات