الخميس:19. 01. 2006

السيد يسين

ليس هناك من شك في أن حوار الحضارات أصبح من بين القضايا التي تملأ الدنيا وتشغل الناسmiddot; وهناك تساؤلات شتى تدور حول السبب الذي جعل من هذه القضية مشكلة تنشغل بها مراكز الأبحاث العالمية والدوائر السياسية، والمثقفون في مختلف أرجاء المعمورةmiddot;
وقد سيق في هذا الصدد سبب رئيسي مؤداه أن سقوط الاتحاد السوفيتي والكتلة الاشتراكية ونهاية النظام ثنائي القطبية وزوال أشباح الحرب الباردة، قد أدى إلى توقف الصراع الإيديولوجي الضاري بين الشيوعية والرأسماليةmiddot; وهذا في حد ذاته هو الذي فتح الباب واسعاً وعريضاً أمام حوار الحضارات، بعد أن تم زوال القهر السياسي الذي مارسته الدول الشمولية على عديد من الأقليات العرقية واللغوية، مما أطلق ثورة الخصوصيات الثقافية والنعرات العرقيةmiddot; بالإضافة إلى إحساس دوائر متعددة في العالم بالحاجة إلى حوار حضاري عالمي يؤسس لعالم جديد، بعد أن سقطت دعائم النظام القديمmiddot;
ولا شك أن بروز العولمة باعتبارها هي العملية التاريخية العميقة التي تشمل العالم في الوقت الراهن، بتجلياتها السياسية والاقتصادية والثقافية والتواصلية، سبب رئيسي لبروز ظاهرة حوار الحضاراتmiddot; ويرد ذلك إلى أن نزوع العولمة إلى توحيد العالم سياسيا عن طريق شعارات الديمقراطية والتعددية واحترام حقوق الإنسان، واقتصادياً من خلال معاهدة منظمة التجارة العالمية، وثقافياً من خلال فرض قيم ثقافة كونية، واتصالياً بواسطة البث الفضائي التليفزيوني وشبكة الإنترنت، قد أثار ردود أفعال عنيفة ومقاومات متعددةmiddot; وذلك لأن التوحيد الذي تسعي العولمة إلى فرضه على الدول والحكومات والشعوب هو توحيد قسري في غالب الأحيان، مما أدى إلى ظهور شعارات المحلية في مواجهة العولمة السياسية، والخصوصية الثقافية في مواجهة فرض قيم ثقافية غربية ترتدي لبوس العالميةmiddot;
ونجم عن ذلك كله عمليتان متضادتان: توحيد من ناحية، وتشرذم وتفتت من ناحية أخرىmiddot; ومن ثم بدت الحاجة إلى حوار الحضارات لمواجهة هذه الإشكاليات المعرفية والمشكلات الواقعيةmiddot; وربما آن الأوان لكي نصحح الاستعمال الذائع ونقصد عبارة حوار الحضارات، ونتحدث عن حوار الثقافات، لسبب بسيط مؤداه -كما يذهب إلى ذلك عديد من الباحثين والمفكرين- أننا جميعاً في الشرق والغرب نعيش في ظل حضارة واحدة هي الحضارة العلمية والتكنولوجية والاتصالية، وإن كنا نتوزع واقعياً بين ثقافات متعددةmiddot; ومن وجهة نظر التحليل الثقافي فإن مفهوم ''رؤية العالم'' أي وجهة النظر إزاء الكون والمجتمع والإنسان التي تتبناها كل ثقافة، هي مفتاح فهم تعدد الثقافاتmiddot; وفي هذا المجال هناك اتفاق عالمي على أنه ليست هناك ثقافة أسمى من ثقافة، لأن لكل ثقافة كرامتها الخاصة وتاريخها المشروعmiddot; وهو إجماع لا يوافق عليه أنصار العنصرية الجديدة، والذين يحاولون إحياء المشروع العنصري القديم الذي ساد في القرن التاسع عشر، مرافقاً في ذلك للاستعمار الغربي لعديد من بلاد العالم الثالث، والذي كان قوامه نظرية ''عبء الرجل الأبيض''، الذي ألقت المقادير على عاتقه مهمة تمدين الشعوب الهمجية والثقافات البربرية!
وقد نظمت منظمة اليونسكو مؤتمراً عالمياً عقد في ''فلنيوس'' عاصمة ليتوانيا عن حوار الحضارات، دعيت إليه لكي أقدم بحثاً عن مفاهيم الحضارة في القرن الحادي والعشرينmiddot; وقد اكتشفت في هذا المؤتمر العالمي الذي ضم أبرز مثقفي العالم المعنيين بالموضوع، أنه ليس هناك وضوح فكري فيما يتعلق بنظرية ومنهج وأجندة حوار الحضاراتmiddot; وقد دفعني ذلك عقب عودتي من المؤتمر إلى أن أتفرغ لبحث الموضوع من كافة أبعاده، سعياً وراء صياغة رؤية عربية لحوار الحضاراتmiddot; وأصدرت كتابي ''حوار الحضارات: الغرب الكوني والشرق المتفرد''، وواصلت البحث بعد ذلك، وانتهيت إلى نظرية متكاملة عن الرؤية العربية لحوار الثقافات، تتضمن مبادرة حضارية عربية، ومنهجا يحدد معايير اختيار المشكلات التي ستطرح في مجال الحوارmiddot; وهذه المشكلات بعضها عالمي يتعلق بالإشكاليات المعرفية والمشكلات الواقعية التي ستواجه القرن الحادي والعشرين، بالإضافة إلى ضرورة وضع نظام عالمي جديد، وبعضها يتعلق بالمشكلات بيننا وبين الغربmiddot; ونستطيع أن نوجز أهم عناصر المبادرة الحضارية العربية المقترحة فيما يلي:
1- ضرورة صياغة مفهوم لتحقيق السلام العالمي يقوم على أساس تعريف محدد للعدل باعتباره إنصافاً Fairness إذا استخدمنا التعريف الموفق الذي صاغه فيلسوف جامعة هارفارد ''جون رولز'' في كتابه الشهير ''نظرية عن العدل''middot;
2- ولا يمكن للسلام العالمي أن يتحقق إلا إذا ووجهت سلبيات العولمة الاقتصادية بشكل حاسمmiddot; ذلك أن العولمة في الوقت الراهن تعمل لصالح دول الشمال المتقدمة على حساب دول الجنوب الفقيرةmiddot; وفي هذا المقام لابد من إعادة التفاوض حول معاهدة منظمة التجارة العالمية، وتعديل المواد التي نصت على أحكام مجحفة بالدول النامية مما من شأنه أن يدمر بنيتها الاقتصادية على المدى الطويلmiddot;
3- ولابد للمبادرة أن تركز على ضرورة وضع معايير لتقنين حق التدخل السياسي، وتقديم مبادئ محددة مقترحة في ضوء الخبرة الدولية في العقد الماضيmiddot;
4- هناك ضرورة قصوى للتمييز بين المقاومة المشروعة للاحتلال والإرهاب، وتقديم مقترحات لتعريف الإرهاب يمكن الاتفاق الدولي حولهاmiddot;
5- ضرورة وضع سياسات ثقافية وتنموية شاملة في البلاد العربية والإسلامية لمواجهة الفكر الإسلامي المتطرف، والجماعات والمنظمات الإرهابيةmiddot;
6- أهمية صياغة سياسات ثقافية رشيدة في البلاد الغربية، للتعامل مع المواطنين من أصول عربية أو إسلامية في ضوء قواعد المواطنة المعترف بها قانونياmiddot;
7- ضرورة وضع سياسة ثقافية للتعريف بقواعد الإسلام الصحيحة وذلك في المجتمعات الغربية، وتوثيق الصلة مع مؤسسات المجتمع المدني في هذه المجتمعات لإبراز وجهات النظر العربيةmiddot;
8- وأخيرا ضرورة مواجهة العنصرية الغربية الجديدة، من خلال التحالف الثقافي بين المثقفين العرب والمثقفين الغربيين النقديين، الذين يحاربون في بلادهم التيارات العنصرية الجديدةmiddot;
9- مما لا شك فيه أن مصداقية المبادرة الحضارية العربية لا يمكن أن تتوفر إلا إذا ثبت للعالم أن المجتمع العربي ينتقل بخطوات سريعة من السلطوية إلى الديمقراطية، بكل ما يعنيه ذلك من معان وانعكاسات على السلوك السياسي والاجتماعي والثقافي، في ضوء توسيع دائرة المشاركة السياسية، واحترام التعددية، وحقوق الإنسانmiddot;
10- وأخيراً ونحن نعيش في عصر المجتمع المدني العالمي، حيث تلعب المؤسسات غير الحكومية والتطوعية أدواراً بالغة الأهمية في مجال التنمية، بعد تقلص دور الدولة -لأسباب شتى- في ميادين متعددة، لابد من دعم عملية تأسيس وإعادة إحياء المجتمع المدني العربي التي تدور في بلاد عربية متعددةmiddot;
وقد أسسنا المنهج الذي سيتم على أساسه اختيار مشكلات حوار الثقافات على حقيقة مهمة هي أننا نعيش في الواقع عصر عولمة المشكلات الإنسانيةmiddot; بمعنى أن كل الشعوب تواجه بمشكلات واحدة ينبغي التحاور حولها من أجل التماس الحلول لهاmiddot; وهذا لا ينفي أن هناك أيضاً خصوصية للمشكلات الإنسانية ينفرد بها كل مجتمع وتوجد في ثنايا كل ثقافةmiddot; ومن هنا برزت أهمية مراكز التفكير الجماعي العالمية وفي مقدمتها هيئة اليونسكو والمشروع الألفي الذي تتبناه جامعة الأمم المتحدة في طوكيو باليابان، والذي يصدر سنوياً تقريراً باسم ''حالة المستقبل''middot; اليونسكو نظمت منذ سنوات مؤتمراً عالمياً ضم نخبة العلماء والفلاسفة والمثقفين في العالم وصدرت بحوثه في كتاب بعنوان ''حوارات القرن الحادي والعشرين''middot; وتقرير ''حالة المستقبل'' استطلع رأي مئات العلماء والمفكرين، وحددوا خمس عشرة مشكلة واقعية تحتاج إلى حوار حولهاmiddot;
من بين الإشكاليات المعرفية التي حددتها اليونسكو ضرورة صياغة عقود جديدة طبيعية تخص مستقبل النوع الإنساني، وثقافية تخص الآفاق الجديدة للثقافة، واجتماعية تخص الديمقراطية وحقوق الإنسان ووضع المرأة في العالم، وأخلاقية تتعلق بمخاطر العولمةmiddot; أما المشكلات الواقعية فمن أمثلتها الفجوة بين الموارد والسكانmiddot;
والمصدر الثالث للتفكير العالمي الجماعي هو الأمم المتحدة وخصوصاً التقرير الذي أصدرته لجنة الحكماء التي شكلها كوفي عنان بعنوان: ''حوار الحضارات: عبور الخط الفاصل''middot; ويتضمن التقرير نقداً عنيفاً للنظام الدولي الراهن، ودعوة لتأسيس نظام دولي جديد يقوم على أساس الحرية والعدالة واحترام الكرامة الإنسانيةmiddot; ويبقى بعد ذلك أن نحصر المشكلات التي تعوق التواصل الثقافي الإيجابي بين العرب والغربmiddot; ونستطيع في هذا المجال أن نعدد بعض المشكلات المهمة وفي مقدمتها: مشكلة العلاقة بين الإسلام والغرب، ومشكلة التطرف الفكري في العالم العربي، والمشكلات الناجمة عن الإرهابmiddot; والهجرات العربية إلى أوروبا ومشكلاتها وخاصة قضية المهاجرين إلى المجتمعات الأوروبيةmiddot; والتفرقة بين المقاومة المشروعة للاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية والإرهابmiddot; والعنصرية الجديدة في أوروباmiddot;
وهكذا يمكن القول إن منهجنا المقترح في حوار الثقافات يتمثل في مناقشة المشكلات الإنسانية العالمية في الدوائر الثلاث التي أشرنا إليها من باب الكفاءة المعرفية والندية الثقافية بالإضافة إلى الحوار حول مشكلاتنا مع الغربmiddot;