الخميس:19. 01. 2006

محمد سيد أحمد


مات عرفات بمرض مجهول، لم يكتشف سره إلى اليوم، وهاهو شارون يموت لأسباب محاطة هي الأخرى بالغموض. لقد أصيب شارون بجلطة في المخ عدة مرات متتالية، ثم قال تقرير فريق الأطباء الذين يعالجونه، إن حالته تحسنت فجأة، ثم أعلن أن صحته قد ساءت وتدهورت بشكل خطير، ما معنى هذه التقلبات؟، وهل التقارير الطبية ليست ldquo;طبيةrdquo; فقط وإنما مكيفة بعوامل أخرى؟.

لست من أنصار التفسير التآمري للتاريخ، حتى مع تسليمي بأن التاريخ لا يخلو من مؤامرات، فهل هناك مبالغات في افتراض أن التقارير الطبية عن حالة شارون من الممكن أن تكون محرفة لخدمة أغراض سياسية أو غيرها من قبل الأطراف ldquo;الإسرائيليةrdquo; المتنافسة في انتخابات 28 مارس/ آذار القادم؟ جدير بنا في هذا الصدد أن نشير إلى أن ما كشفه يوم 12 مايو/ أيار الماضي أحد المسؤولين بمكتب شارون أن المرض الذي يعاني منه هو المرض البالغ الخطورة المعروف باسم الزهايمر، وأن الأطباء المعالجين رفضوا الكشف عن حقيقته خشية الإساءة إلى مكانة رئيس الوزراء ldquo;الإسرائيليrdquo;.. وهذا إن صح يؤكد أن التقارير التي صدرت للجمهور ldquo;الإسرائيليrdquo; من مستشفى هداسا هي تقارير ليست طبية في المقام الأول، بل ربما كانت ذات جوانب سياسية معينة أيضا.

هل هناك ما يبرر القول إن البيانات الطبية التي كثيرا ما مُدحت من منطلق أنها تنمّ عن شفافية كاملة، وبالتالي عن ديمقراطية رفيعة، ما هي في النهاية إلا فصل في لعبة سياسية بغرض التأثير في نتيجة الانتخابات المقرر أن تجرى في مارس القادم؟، هل زيادة الأمل في شفاء شارون مبرر لزيادة دعم حزب شارون الجديد حزب ldquo;كاديماrdquo; وحسم المعركة لصالحه، لا في مواجهة غريمه نتنياهو وحسب، بل وأيضا في مواجهة شريكه المقرر أن يحل محله إيهود أولمرت كذلك؟، هل أصبحت اللعبة ثلاثية بعد أن كانت ثنائية؟، بين شارون ونتنياهو وأولمرت بعد أن كانت فقط بين أولمرت ونتنياهو؟، هل اكتسبت المعركة أبعادا أكثر تعقيدا مما بدا في أول وهلة؟

بل قد تكون اللعبة الثلاثية بديلا عن الثنائية مبررا لإطالة العملية الانتخابية، وتعليقها لوقت طال أم قصر، استنادا إلى أن الجانب العربي غير قادر على تغيير الأمر الواقع، وليس أمامه سوى أن يتحمل ما سيفرض عليه، وبدلا من لعبة تنافسية بين الأطراف ldquo;الإسرائيليةrdquo; الثلاثة، قد نكون بصدد لعبة تكاملية بين طرفين بين الطرف ldquo;الإسرائيليrdquo; والطرف العربي لإطالة العملية أطول مدة ممكنة؟ هل الأطراف العربية واعية لهذا الاحتمال، وعلى استعداد لمواجهته؟

إن الذي يبدو صراعا داخليا في ldquo;إسرائيلrdquo; قد يكون صراعا بين ldquo;إسرائيلrdquo; والأطراف العربية من أجل تحسين شروط ldquo;إسرائيلrdquo; في التفاوض وفي عملية التسوية وتحميل الأطراف العربية مزيدا من التنازلات، بأدوار من قبل الأطراف ldquo;الإسرائيليةrdquo; تكمل بعضها البعض، وتنتهي إلى وضع نهائي يحقق للأطراف ldquo;الإسرائيليةrdquo; أفضل وضع ممكن.

.. أو يترك الحال على ما هو عليه، تكريسا للأوضاع السائدة، وحتى تدرك الأطراف العربية أن التغيير حتى لصالحهم، لابد أن يكون بصنع أيديهم، لا بصنع أي طرف آخر..

ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن عهد شارون في سبيله إلى الزوال، أيا كان مصيره الشخصي، فليس هو بالتأكيد من الممكن ائتمانه لتحمل مسؤوليات رئيس وزارة، حتى لو شفي، وخاصة في ظل الظروف البالغة التعقيد الراهنة.

لقد أذهل بوش العالم عندما وصف شارون، إثر أحد اجتماعات القمة الأولى بعد تولي بوش الرئاسة وفي وقت رفض فيه بتاتا اللقاء بعرفات بأن ldquo;شارون رجل سلامrdquo;.. فربما كانت هناك نعوت كثيرة يمكن تمييز شارون بها، ولكن لم يكن نعت ldquo;السلامrdquo; على وجه التأكيد منها! إن شارون في نظر الفلسطيني، ونظر العربي، ونظر المسلم، هو مذبحة صبرا وشاتيلا، بل إن محكمة كاهانا ldquo;الإسرائيليةrdquo; التي حققت مع شارون حول مسؤوليته في ارتكاب هذه المذبحة المروعة لم تستطع أن تتملص من إدانة شارون، وإن حاولت تحميله فقط مسؤولية ldquo;غير مباشرةrdquo; عما جرى.

وقد انقسمت المشاعر نحو شارون في ldquo;إسرائيلrdquo; بين من يرونه رمزا لكل ما هو كريه ومرفوض في المجتمع ldquo;الإسرائيليrdquo;، وأيضا ومن زاوية أخرى ما هو أسطوري وموضع إعجاب وتمجيد في هذا المجتمع.. وربما بلغ هذا التناقض أقصاه في الظرف الراهن على وجه التحديد.. والمفارقة الغريبة أن أكثر التناقضات حدة في ldquo;إسرائيلrdquo; الآن هي بين شارون ونتنياهو، علما بأنهما ينتميان إلى نفس المدرسة الأيديولوجية، ويظهران نفس القدر من التطرف والتشدد.. كل في اتجاهه..

غير أن هناك شيئا ربما بسبيله أن يتغير، ف ldquo;إسرائيلrdquo; لم تعد القلعة المحصنة المحاطة بقوى يرونها كفيلة بتهديدها في كل لحظة، وأية كانت ادعاءات أمثال شارون ونتنياهو، وما يزعمونه من أخطار محدقة، متجددة، فإن تفوق ldquo;إسرائيلrdquo; المادي والعسكري ليس موضع جدال، ومن هنا فإن الجيل الجديد من ldquo;الإسرائيليينrdquo; عاجز عن أن يتبنى الأيديولوجية القتالية الشديدة الانضباط التي حركت أمثال شارون وجيله.

قد يبدو شارون بطلا في نظر ldquo;إسرائيليينrdquo; مازالت ldquo;المحرقةrdquo; نقطة البداية في تصورهم عن كل شيء.. ولكن الأمر ليس هكذا بعد مرور ستين سنة على الحرب العالمية الثانية، وأية كانت الدعاية المركزة في هذا الصدد، فإن صورة العالم تتغير، والكراهيات القديمة تخفت، والحياة تنطلق من مداخل جديدة، هل من أثر في ذلك على كيف تدار السياسة؟، ثمة عوامل متداخلة في هذا الصدد، ثمة تصعيد في العنف، وبلوغ الإرهاب المضاد ذرى، وهناك أيضا الظاهرة النقيض، أي ظهور عوامل تنم عن إجهاد، وعن تراجع عن التطرف، وعن رغبة في الإصلاح، وعن أشكال جديدة من العمل التنظيمي، مثل حركة ldquo;كفايةrdquo; على سبيل المثال، إلخ.

وعلى نحو ما، فإن التفوق ldquo;الإسرائيليrdquo; المفرط مصدر ضعف!.. لم تعد هناك حالة التأهب والاستنفار التي حكمت سلوك ldquo;الإسرائيليينrdquo; في السنوات الأولى، أصبح التمادي في التحوط والاحتياط عاملا تأثيره عكسي.. وهذا ربما من أبرز سمات التغيير الجاري.