الجمعة:20. 01. 2006
يوسـف إبراهيـم
لم تترك القنابل المدوية التي أطلقها مؤخراً نائب الرئيس السوري السابق عبدالحليم خدام، سوى مساحة تكاد لا تذكر للتحقيق الدولي الذي تجريه الأمم المتحدة حول ملابسات مصرع رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريريmiddot; كما نسفت القنابل ذاتها كل السلوكيات المأثورة للأنظمة، التي تميل عادة إلى إلقاء اللوم على ''العدو الخارجي'' وإسرائيل وبعض الأنظمة العربية وغيرها من ''المؤامرات'' المتخيلةmiddot; فخلال الثلاثة أسابيع الماضية، وعبر سلسلة من اللقاءات التلفزيونية التي أجريت معه، انبرى خدام لتكرار ثلاثة اتهامات جد مزعجة ومثيرة لقلق دمشقmiddot; وتتلخص الاتهامات هذه في أن بعض الأطراف في سوريا هي المسؤول الأول عن مقتل رفيق الحريري، وأنها نهبت من لبنان ما تقدر قيمته بمليارات الدولارات خلال فترة الثلاثين عاماً الماضية، وأن بعض كبار مسؤولي دمشق -الذين كان خدام نفسه واحداً منهم- من أصحاب الملايين، وأنهم نهبوا ثرواتهم وأموالهم من خزانات كل من سوريا ولبنان معاًmiddot;
وكان أول هذه التصريحات قد انطلق من قناة ''العربية'' التي نقلت عنها بقية الفضائيات العربية والعالمية، ثم كرر خدام الاتهامات ذاتها عبر سلسلة من اللقاءات الصحفية التي أجريت معه خلال الأسابيع الثلاثة الماضية، وها هو يؤكد المعلومات ذاتها للجنة التحقيق الدولية في مصرع الحريريmiddot; وليس مستغرباً بالطبع أن يزعم الكثيرون أن خدام إنما يطلق حملة مغرضة من الأكاذيب والمعلومات الملفقةmiddot; ولكن السؤال الذي لابد من إثارته في مواجهة زعم كهذا هو: لماذا يكذب خدام الذي لم يدَّعِ لنفسه البراءة يوماً؟ والملاحظ أن هذه الشائعات إنما تصدر عمن كان أحد الرؤوس ضمن المجموعة التي تحكم دمشقmiddot; وشأنه شأن الكثير من المتهمين، فقد سعى خدام لإبرام صفقة مع باريس، تدور تفاصيلها حول تأمين حق اللجوء السياسي له في فرنسا، والسماح له بالاحتفاظ بأمواله وثرواته المنهوبة، مقابل أن يقول للفرنسيين كل الذي يودون سماعه ومعرفته عن مسؤولي بلادهmiddot; ولربما وافقت فرنسا على هذه الصفقة، بكل ما تحمله هذه الموافقة من دروس يجب تعلمها عن كيفية تدمير الأمم والشعوبmiddot;
ومما لا ريب فيه أن خدام كان من أخلص وأقرب المقربين للرئيس السابق حافظ الأسد، مؤسس النظام السوري، فضلاً عن كونه أخلص وأصدق مستشاريه على الإطلاقmiddot; وإلى ذلك كله أضف حقيقة أنه ظل نائباً للرئيس على امتداد حقبة طويلة! ولا جدال في أن خدام كان يعد واحداً بين أهم ثلاثة رؤوس في النظام السوري الحاكمmiddot; ولذلك فليس غريباً أن يلجأ لمقايضة معلومات الدولة وأسرارها بعرض النجاة من السجن والمحاسبة، حين تحل لحظة السجن والمحاسبةmiddot; ولم يسبغ خدام على نفسه أياً من الصفات الحميدة ولا النبيلة باعتباره جزءاً لا يتجزأ من ذلك النظام، ولكن كل الذي يدعيه ويؤكده هو أن بعض الآخرين من أفراد ومسؤولي النظام، يبزونه سوءاًmiddot; وبما أن هذه هي الحقيقة، بزعمه، فما الفرق عنده أن يقول ما يقول؟
وضمن سلسلة تفجيراته وقنابله السياسية، ذهب خدام في لقاء صحفي أجرته معه مؤخراً مجلة ''لونوفيل أوبسرفاتور'' الفرنسية، لاتهام المسؤولين السوريين -دون أن يستثني منهم حتى نفسه- بنهب ما تزيد قيمته على 20 مليار دولار أميركي من لبنان خلال فترة الوجود العسكري الطويل لسوريا في الأراضي اللبنانيةmiddot; بل قال إن إجمالي ما نهب من سوريا خلال الفترة ذاتها، يزيد على ذلك المبلغ بكثيرmiddot; وتساءل خدام في معرض اللقاء الصحفي المذكور، عن الكيفية التي أمكن بها لهذا العدد الكبير من مسؤولي النظام السوري، ممن لا تزيد رواتبهم الشهرية عن بضع مئات من الدولارات لا أكثر، مراكمة كل هذه الثروات المالية الهائلة لتأمين مستقبل أبنائهم وعوائلهم؟ لاشك أن هذا سؤال على درجة كبيرة من الأهميةmiddot; والملاحظ أن خدام وبإثارته لمثل هذه الأسئلة الحرجة، إنما يسدي لنا جميعاً معروفاً، في حال إثارة السؤال نفسه في عدد آخر من الدول والأنظمة العربيةmiddot;
وإنه لمن الجيد بوجه عام، أن يبدأ الناس بالحديث عن ''اغتصاب'' الخزانة العامة للدولة، خاصة بعد أن أصبح ظاهرة شائعة في الكثير من الدولmiddot; وإن كنت من يتشككون في صحة هذه الحقيقة، فما عليك إلا أن تلقي بنظرة سريعة إلى عشرات القصور الفاخرة التي بنيت في عراق صدام حسين؟ بل إن خدام مضى إلى وصف ما بلغته ممارسات الفساد ونهب الأموال العامة داخل كل من سوريا ولبنان بزعمه تحت السيطرة السورية، إلى ما يعف عنه الوصف واللسان، في أحد لقاءاته الصحفية الأخيرةmiddot; وضمن ما فعله خدام في تلك اللقاءات، توجهه بالشكر لكافة القنوات والفضائيات والشبكات الإذاعية والصحف العربية، التي لم يعد بفضلها عالمنا مملكة للأسرار والكتمان، كما كانmiddot; وعلى الرغم من أنه يصعب وصف خدام بالنزاهة أو الأمانة، إلا أنه يصعب بالقدر ذاته إلقاء كل ما قاله في سلة القمامة، بزعم وصفه بالتلفيق والكذبmiddot;
وبالنسبة لشخص مثل خدام، فما الذي تبقى له ليخسره أصلاً؟
أما موجة القلق والفزع التي أثارتها تلك التصريحات، فهي واضحة جداً، ويمكن مشاهدتها في الحركة الدؤوبة التي تشهدها بعض العواصم العربية وكأن أحداً بيده عصا سحرية لحل كل الأزمات والمشاكل التي يؤدي إليها المأزق الحالي! ولكن السؤال هو هل يكون في وسع هذه العواصم إغلاق ملف التحقيق الذي تجريه الأمم المتحدة حول مصرع الحريري؟ وهل في وسع الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى، دعوة الجامعة لعقد اجتماع طارئ لمواجهة الوضع السوري؟ فالشاهد أنه لا أحد سيلبي دعوة لاجتماع كهذا، حتى وإن بادر الأمين العام للجامعة في هذا الاتجاهmiddot; فالذي ينتظر المتهمين إنما ينتظرهم بمفردهم، ولا تقع جريرة الإتيان بمن فعلوا فعلتهم بالحريري، على غيرهمmiddot; ولذلك فإن على الأطراف المعنية أن تتقبل وضعها وأن تتحلى بالمسؤولية في مواجهة ما هي عليهmiddot;
يذكر أن الرئيس بشار الأسد قد أشار في لقاء صحفي أجري معه يوم السبت الماضي، إلى رفضه لطلب ثانٍ توجه به محققو الأمم المتحدة، دعوه فيه لقبول التحقيق معه، والإدلاء بإفادته فيما يتصل بملابسات مصرع الحريريmiddot; وبرر الأسد رفضه بما يتمتع به من حصانة دوليةmiddot; ولكن ثمة أسباباً تقلص حصانة كهذه، حين يتعلق الأمر بتنفيذ قرارات مجلس الأمن الدولي، أو حين يتعلق بالاستجابة لمشاعر اللبنانيين إثر مقتل زعيمهم الحريريmiddot; وربما لا يصل التحقيق الدولي إلى نهاياته المفضية إلى محاكمة الشركاء الفعليين في الجريمة، إلا أنه أدى غرضه سلفاًmiddot; فقد تنفسنا من قبل جميعاً الصعداء ونحن نرى نظاماً طاغياً متجبراً مثل نظام صدام حسين وهو ينهار على عروشه، وأقل خدمة سياسية أسداها لنا هذا التحقيق، أنه لم يعد في إمكان الأنظمة، أن تمارس ما تريد وهي متسترة بستار الحصانة أياً كانتmiddot;
التعليقات