نداف شرغاي

فليصوتوا! من ذا الذي ما زال يهتم لذلك أصلا؟ ففي غمرة الاخفاقات التي ترافق المراهنة الاسرائيلية في الحفاظ على القدس موحدة ـ تصويت سكان شرقي القدس في انتخابات السلطة الفلسطينية ليس أكثر من ذرف دمعة اضافية على الحليب الذي سكب قبلاً. هذا التصويت لن يقدم ولن يؤخر حتى وفق نهج الليكود الذي خرج الآن ضده. فالليكود هو الذي اقترح على الفلسطينيين طوال السنين ان يكتفوا بحقوق الانسان في اسرائيل والتصويت سياسياً لدى آخرين (في الأردن مثلا).
القدس، في جميع الأحوال، باتت مقسمة منذ سنوات طويلة. هي مقسمة بين سيادة إسرائيلية في اجزائها اليهودية وبين سيادة فلسطينية بحكم الأمر الواقع في اغلبية الاحياء العربية. هي مقسمة أيضاً بين القدس الغربية التي هي موضع اهتمام، والعصرية نسبياً وبين القدس الشرقية ـ العربية المهملة.
استمرار محاولة الفصل بين عرب شرقي القدس وبين السلطة الفلسطينية، يشبه إذا اعطاء كؤوس هواء للميت. أضف الى ذلك انه من دون تحول على مستوى الوعي لن تكون قضية التقسيم الشكلي الا مسألة وقت فقط. فأسوار الفصل تقضم الآن من القدس السيادية مناطق واحياء يعيش فيها عشرات آلاف الفلسطينيين، وباسم الديموغرافيا يتدافع سياسيون من كل الاحزاب للمطالبة بالتقسيم.
طوال سنوات، أوضح انصار الخط الديموغرافي في أنه يتعين التنازل عن أجزاء الوطن في يهودا والسامرة (الضفة الغربية) حتى تبقى الدولة يهودية وحتى لا تغرق اسرائيل في بحر من ملايين الفلسطينيين وحتى يكون من الممكن الكفاح من أجل الامر اليهودي الحقيقي ـ القدس. الآن، بينما تتراجع اسرائيل خطوة تلو أخرى للوراء نحو quot;الأمر الحقيقيquot; يتضح انه يتوجب هنا أيضاً ان ننسحب بسبب الديموغرافيا، وأن الامر يتعلق في الواقع بوهن في العزيمة وليس بالديموغرافيا.
بدلاً من زيادة الكفاح والبناء اكثر فأكثر وانقاذ أراض اخرى وتقديم تسهيلات اقتصادية للسكان اليهود الذين يأتون للسكن في القدس وتفضيل البناء شرقاً بدل الغرب، وكذلك تحسين ظروف الحياة في شرقي القدس بصورة جوهرية ـ يقترح الديموغرافيون ان نرفع ايادينا هنا ايضا والتنازل عن حلم القدس خاصتنا.
لم يعد يدور الحديث عن جذر المشكلة: بدليل أننا نسينا عدالتنا وأحقيتنا في القدس. في مواجهة بحر الاكاذيب والبدع التي يبثها الفلسطينيون حول المدينة وتاريخها، ثمة ضرورة للعودة إلى الاساس. الأساس لا يمكن ان يرتكز فقط على الحاجة الوجودية ـ الأمنية. بل يجب ان يرتكز على التزامنا بالعدالة التاريخية وعلى الوعي والثقافة القومية. هذا الالتزام يشذ بالضرورة عن القلق الذي هو هام بحد ذاته، ازاء الوجود المادي والتوازن الديموغرافي.
قبل سنوات غير بعيدة ساد في هذه البلاد ادراك بأنه ليس من الممكن احياء تاريخ شعب اسرائيل وإقامة حضارته القومية في دولة من دون الارتكاز الى الارث التاريخي والديني الذي غذى الوعي القومي عبر الاجيال. هذا الارث هو قبل كل شيء إرث القدس.
القدس التي يقع جبل الهيكل والبلدة القديمة في مركزها، هي أحد العوامل المركزية التي ما زالت تحول دون انكماش الوعي القومي نحو الأمور البديهية فقط، أي مكان الولادة. في كل دولة أخرى تكفي مثل هذه الصلة الطبيعية والأولية، لكن ليس في اسرائيل التي قامت من قلب الماضي ومن دون التاريخ والثقافة اللتين ترتكزان على الدين اليهودي، والتي لا يوجد لها حق الوجود هنا تحديداً في ارض اسرائيل. اذا كان ماضي الانسان لا يمتد الا على امتداد ايام حياته، واذا لم يكن هناك مغزى لخلفيته الدينية والتاريخية وانما فقط لمكان ولادته، فلماذا الافتراض ان حق اليهودي في ارض اسرائيل والقدس أفضل من حق العربي؟
سر العلاقة الذي يتوجب إعادة تحريك كل شيء من خلاله، هو الذاكرة. وما هي الذاكرة اليهودية إن لم تكن ذاكرة القدس؟ من يخطر في باله أن يبتعد عن القدس وعن البلدة القديمة وجبل الهيكل، يبتعد أيضاً عن ذاكرة ماضيه الذي هو في نظر الكثيرين أيضاً سيرة الحاضر والمستقبل بالنسبة له.
في عام 1966 عبر عغنون عن هذه الحقيقة الداخلية عندما قال في خطابه لمناسبة حصوله على جائزة نوبل إنه ولد بسبب المحرقة التاريخية (خراب القدس) في احدى مدن الشتات، إلا انه اعتبر نفسه دائماً شخصاً ولد في القدس.
حتى وان لم يكن واقع العقدين الأخيرين في القدس بسيطاً، الا انه ممنوع أن يؤدي وحده الى بلورة صورة المستقبل. عندما يتعلق الامر بالقدس يتوجب منح الحلم والرؤية وزنا اكثر مركزية بأضعاف. من الممكن التغلب على الضائقة الديموغرافية إذا اعتبرناها مؤقتة واذا عملنا على تغييرها بدلاً من الانسحاب أمامها من دون توقف.


ترجمة: عباس اسماعيل