السبت:21. 01. 2006
حازم صاغية
تتمتع الهند، اليوم، بأهميّة دوليّة غير مسبوقة منذ استقلالها في middot;1947 وبعض الأهميّة هذه أنها باتت، ولو نظريّاً فحسب، مصدراً لتعلّم السياسة من قبل شعوب تشبهها في درجة التطور، وفي تراكيبها الاجتماعيّة والثقافيّةmiddot; ونحن، الشعوب العربيّة والإسلاميّة، نندرج في الخانة هذه بطبيعة الحالmiddot; والراهن أنه باقتصاد يُقدر له أن ينمو، هذا العام، بنسبة تتراوح بين 7 و8 في المئة، وذلك للسنة الرابعة على التوالي، يُفترض بالهند، في العقود المقبلة، أن تقفز قفزات هائلةmiddot; والكثيرون من مستشرفي المستقبل يتوقعون لها أن تتحول، في غضون جيلين، واحدةً من أبرز قوى العالم، على الصعيد الاقتصادي ومن ثم السياسيmiddot;
وهو ما يعني، أقلّه من الزاوية التي تعنينا، أن الهنود سلكوا، ويسلكون، إلى الدور السياسي طريقاً اقتصاديّة، وتحديداً، طريق تقنيات الاتصال الحديثة التي عبّدتها لهم معطيات ثلاثة: حفاظهم على مؤسسات متماسكة، وإجادتهم اللغة الإنجليزية، وعلى نحو مُفارق، الفقرmiddot; ذاك أن هذا الأخير رشّح بلدهم للإفادة من عمليات تفريع وحدات الإنتاج المعلوماتيّة في الغرب ونقلها إلى بلدان لا تزال يدها العاملة رخيصة، والهند في طليعتهاmiddot;
وكائناً ما كان الأمر، ففي هذا رأينا الهنود يخالفون الطريق التي تسلكها دول عربية عدة، والتي تتأدّى عنها الإساءة إلى الأداء الاقتصادي، والحؤول دون النهوض الاقتصادي تالياً، بسبب خيارات سياسية معتمدةmiddot;
وغني عن القول إن هذا جميعاً ما كان ليتحقق لولا الإنجاز الأعظم الذي هو الحفاظ على الديمقراطية واشتغال بُناها في بلد لا يزال فقيراً جداً، يضم 1,1 مليار شخص، وما لا يُحصى من ولاءات دينية وإثنية ولغويةmiddot; وإذا كانت العلاقات بين الجماعات هذه لم تتحرر من بعض أحقاد الماضي وحساسيّاته، فإن تردّيها لم ينعكس على استمرارية الحياة السياسية والدستوريةmiddot; والشيء نفسه يمكن أن يقال عن الحروب الكثيرة التي خاضتها الهند ضد باكستان ولكنْ أيضاً ضد الصين، فضلاً عن تعرّض الكثيرين من قادة البلد، منذ المهاتما غاندي الى راجيف غاندي مروراً بأمه أنديرا، للاغتيالmiddot; فهذه كلها أسباب للتداعي السياسي والانهيار المؤسسي، إلا أنها لم تعمل، في الهند، على النحو هذاmiddot; وليس بالسهل، ولا العادي، أن نجد اليوم، في ذاك البلد الذي يشكّل الهندوس غالبيته الكبيرة، أن رئيس الجمهورية مسلم، ورئيس الحكومة سيخي، ورئيسة الحزب الحاكم، أي ''حزب المؤتمر''، مسيحية من أصل إيطاليmiddot; وإنما بسبب تركة كهذه وما ترتّب عليها، تلقى حكومة مانموهان سينغ نفسها في وضع دبلوماسي مريح، تتسابق على احتضانها ورعايتها القوى الدولية الكبرى جميعاًmiddot; بيد أن الوضع المشار إليه لا يعني أن الحياة السياسية الهندية سماء صافية بلا غيومmiddot; فهي تعاني، ما بين مشاكل داخلية وخارجية، عدداً من الصعاب نكتفي، هنا، بالإشارة إلى أهمها:
فمن المُجمع عليه، رغم الموقع المحترم الذي تحظى به الهند، ورغم انتظام سيرورتها السياسية والديمقراطية، أن إخفاقات الوضع المحلي ضخمة وخطيرةmiddot; ذاك أن الإصلاح الاقتصادي لا تزال تعيقه السياسات الائتلافية للحكومات بحيث لا يُتوقّع في الموازنة السنوية التي سوف تصدر في فبراير المقبل أن تحمل انعطافات جذريةmiddot; ويُفترض، قريباً، أن تجري بضعة انتخابات في بعض الولايات، بما فيها كيرالا والبنغال الغربية، حيث يجد ''حزب المؤتمر'' نفسه في تنافس مع الشيوعيين الذين يعتمد على أصواتهم للاحتفاظ بأكثرية برلمانية تسند حكومتهmiddot;
وعلى العموم، يبقى السؤال المطروح بإلحاح: كيف التوفيق بين ضرورة النزول عند مطالب الشيوعيين، لكي يبقى المؤتمر على رأس السلطة، وبين إنجاز إصلاحات مُلحّة، كالخصخصة ولبرلة قوانين العمل والقبول بالاستثمارات الأجنبية في القطاع الصناعي، وهي كلها مما يعارضه الشيوعيون ويمارسون عليه حق ''الفيتو''؟
والحق أن الفشل في إنجاز الإصلاحات المذكورة لا بد أن يؤدي إلى إضعاف سينغ، والى إحباطه وغضبه، وربما استقالته والدعوة إلى انتخابات عامة على أمل تقوية موقعه في التحالف الحاكم (الانتخابات مقررة أصلاً في 2009)middot; وفي هذه الحال الأخيرة تظهر وجهتا نظر، تقول إحداهما إن انتخابات تجري الآن ستكون حكماً لمصلحة ''المؤتمر'' لأن حزب المعارضة الأساسي، ''بهاراتيا جاناتا''، يعيش وضعاً غير عادي من الفوضى والاضطرابmiddot; كذلك حققت حكومة ''المؤتمر'' اختراقات فعلية في البيئات الشعبية والفقيرة حين مررت، العام الماضي، قانوناً يضمن 100 يوم عمل في السنة بمعاش حد أدنى لكل عائلة في 200 من 600 مقاطعةmiddot;
إلا أن وجهة النظر الثانية تتشاءم في ما خص قدرة المؤتمر على تحقيق هدفه، لأن فساد البيروقراطية المتوارث جيلاً عن جيل حد من فعاليّة القانون المشار إليه، فيما عجزت سونيا غاندي في إعادة تنظيم ''حزب المؤتمر'' وتفعيله بما يخدم معركته الانتخابيةmiddot;
وخارجياً، لا تبدو الأمور دائماً أشد سلاسةmiddot; فالمرجّح أن تفشل الهند في الحصول على مقعد لنفسها في مجلس أمن موسعmiddot; ومع أن الولايات المتحدة لا تكف عن توكيد رغبتها في تطوير علاقتها بنيودلهي، فإننا نقع، هنا أيضاً، على إشكال قد لا يكون من السهل عبوره وتجاوزهmiddot;
ذاك أن تقرّب واشنطن من الهند يكمن جذره في العنصر الجيوبوليتيكي كما يجسّده صعود الصين قوةً عظمى اقتصادية وعسكرية تستطيع تحدي الهيمنة العالمية لأميركاmiddot; والراهن أن الهند هي تاريخياً الثقل الموازن للصين، بحيث إن الاستثمار في مستقبلها يقوّيها على الجارة الآسيوية الأضخمmiddot; أضف إلى هذا أن البلدان الغربية عموماً تشعر بارتياح أكبر في تعاملها مع الهند بوصفها بلداً ديمقراطياًmiddot; أما خلافات الماضي فبات يُنظر إليها، اليوم، كأثر من آثار الحرب الباردة، حينما انحازت الهند إلى الاتحاد السوفييتي فيما تحالفت واشنطن مع باكستان، الأمر الذي عزّزته الشراكة إبان الحرب الأفغانيةmiddot;
وفي السياق الجديد هذا، قدمت واشنطن لنيودلهي كل التعاون الممكن في برنامجها النووي المدني، علماً بأنها لم توقّع على معاهدة عدم الانتشار النوويmiddot; بيد أن الولايات المتحدة تتوقع، في المقابل، مزيداً من التعاطف الهندي مع قضاياها ومصالحها، خصوصاً في ما يتصل بالعلاقة مع إيرانmiddot; وهنا المشكلةmiddot; ذاك أن سياسة كهذه قد ينجم عنها إفشال المشروع الهيوليّ لضخّ الغاز الإيراني إلى الهند عبر باكستان، الأمر الذي تنظر إليه الهند بجديّة مطلقة وهي التي يسكنها 17 في المئة من سكان العالم ولا تملك إلا 0,8 في المئة من مصادره المعروفة في النفط والغاز الطبيعيmiddot; ثم إن المشروع يتصل بالسلام مع باكستان حيث يُقدر للبلدين المتنازعين تاريخياً أن يتقاسما ثماره المجزية ويعثرا على حل اقتصادي للمشكلة الكشميرية، بعد أن يكون الباكستانيون قد كفوا عن إيصال السلاح والمقاتلين إليها، فيما تخفض الهند قواتها المتمركزة هناكmiddot;
وإذا سارت الأمور على هذا النحو، فستُختتم الولاية الرئاسية لبرويز مشرف في 2007 على علاقات جديدة نوعياً بين البلدين الجارينmiddot; وحتى لو ظلت الهند تتمنّع في رفض مناقشة الوضع النهائي لكشمير، فالمؤكد أن مناخ الثقة لابد أن يكون قد نما وتطور وانتعشmiddot; ولا يخفي مشرف وسينغ تفاؤلهما، في هذا السياق، بالعلاقة الوديّة التي نجحا في بنائهاmiddot;
ثم إن رئيس الحكومة الهندي الذي ارتبط اسمه بإقدامه، كوزير للمال في ،1991 على كسر القيود الاقتصادية التي حجزت نمو الهند، ربما أراد أن يحجز لنفسه موقعاً في التاريخ بوصفه صانع سلامmiddot; وهذا ما قد يضعه في تعارض مع دبلوماسييه الحذرين ومستشاريه الأمنيين ممن ترعرعوا في مناخ العداء لباكستان والتنازع معهاmiddot; فسينغ قد ينظر إلى السياسة الخارجية بوصفها المجال الذي يستطيع من خلاله أن يُحدث تغييرات ملحوظة ومهمةmiddot; فإذا ما بدا أن السلام النهائي حول كشمير لا يزال أقرب إلى الحلم، فالمؤكد أن الآفاق اليوم تبدو أفضل من أي وقت سابقmiddot;
وعلى العموم، فالهند لا تعلن الويل والثبور أمام المصاعبmiddot; وهذا كُنه السياسة بوصفها التفافاً يومياً على المشكلات وتحسيناً تدرّجياً للحياة، بكثير من التواضع الذي لا ينافسه إلا التسليم بالاحتكام إلى المؤسسات والشرعية الدستورية وطرق اشتغالهاmiddot;
إن لدى الهند دروساً غنية نتعلمها إذا شئناmiddot;
التعليقات