عبد الرحمن الراشد

هي المرة الثانية التي يهدي بن لادن خصومه في الغرب هدنة طويلة، والمرة الثانية ايضا التي يرفضونها. السبب ان بن لادن لم يعد يملك مفاتيح جيوش القاعدة، التي استنسخت، وصار هو وبقية القادة مجرد معلقين على احداثها الكبيرة، يسمعون بها مثل غيرهم عبر وسائل الاعلام. وصار السؤال منذ عامين، ليس ما الذي يخطط له قادة القاعدة، بل هل هم أحياء واين يختبئون.

القيادة الأولى كانت تملك بلدا هو افغانستان، وتدير نظاما سياسيا هو طالبان، وميادين تدريب مفتوحة، وميزانيات مالية ضخمة، وعمليات تجنيد تحت نفس القيادة. انهارت القاعدة القديمة عندما خسرت البلد، وسقط النظام الافغاني، وحجمت وسائل جمع الاموال وتحويلاتها في العالم، وتم تعقب المجندين. انتهى القادة الكبار، مثل الظواهري وبن لادن متنقلين بين قرى نائية بين افغانستان وباكستان مع عدد قليل من المرافقين خشية الملاحقة. ووقعت بقية القيادة، مثل ابوغيث وسيف العدل، في قبضة ايران، حيث تعيش تحت رقابتها وادارتها.

اما قيادات الميدان الجديدة، مثل ابو مصعب الزرقاوي في العراق او القحطاني في افغانستان، فلا تنتمي ولا تعرف بن لادن أو الظواهري. واحيانا لا تنصاع لأوامرهم بما فيها العلنية، كما حدث في النزاع الكلامي المكشوف بين قيادة ارض الرافدين والظواهري، حيث استنكر الثاني عمليات التفجير في المدنيين واستهداف الشيعة، ورد عليه برفض اوامره واستمر يفجر حتى اليوم.

ورغم ان الحكومة الاميركية رفضت عرض الهدنة على الفور، الا انها في قرارة نفسها تتمناه، لو كان ممكن التنفيذ، لولا انها تدرك عجز شيوخ القاعدة على ضبط شبابها. فالحرب بين الجانبين مستمرة وهناك عمليات تنفذ، وقلما تصل اخبارها الاعلام في دول القرن الافريقي وجنوب الصحراء أيضا، خارج خريطة امبراطورية القاعدة التقليدية، او كما سماها احد العسكريين الاميركيين بفروع شركة مكدونالدز العملاقة.

هدنة بن لادن لا يمكن أن تؤخذ بجد، خاصة في وضعه الصعب، وهو يتنقل من مخبأ الى آخر، يعجز عن استخدام الهواتف، ويخشى غدر مضيفيه في كل محل يحط فيه. غيابه الطويل واكتفاؤه بشريط واحد سيئ الصوت هذه المرة، يؤكد انقطاعه عن العالم الا من التعليق على الاخبار.

لا بد ان بن لادن بالفعل راغب في الهدنة، خاصة انه العرض الثاني، ويبرر موقفه برغبة المواطنين الاميركيين بسحب قواتهم من العراق. وأي هدنة تبدأ عادة بشروط تعجيزية ومفاوضات على المستحيل، وتقبل في الأخير بحلول مرنة. فالاميركيون رغم الثمن الباهظ يعرفون ان الهدنة تخدم اغراضهم، لان الحرب مع القاعدة حققت لهم اهدافا، فقد اسقطوا نظامين عدوين، وأدبوا أنظمة أخرى، وشتتوا القاعدة، واحكموا وجودهم الاستراتيجي في المنطقة. اما القاعدة فقد نجحت في اثارة الرعب، لكنها لم تحقق وجودا مماثلا لما كانت تتمتع به في افغانستان. الهدنة ساقطة لأن المتبرع بها لا يقدر على ضمانها، والاميركيون لا تهمهم الهدنة في منطقة الحدود الباكستانية الافغانية حيث توجد بقايا القاعدة القديمة.