محمد خليفة


القرار الذي اتخذته الحكومة الباكستانية والقاضي بوجوب تسجيل المدارس الدينية لدى الحكومة، وإبعاد الطلاب الأجانب منها، يفتح الباب أمام تساؤلات عن مستقبل دولة باكستان. فهذه الدولة قامت على أساس ديني بعدما تم تقسيم الهند إلى دولتين، واحدة للهندوس هي الهند، وأخرى للمسلمين هي باكستان عقب جلاء بريطانيا عنها عام 1947. لكن دولة الهندوس ليست صافية، بل فيها حتى الآن نحو 200 مليون مسلم. أما باكستان، فقد أقيمت في الأقاليم الهندية التي تقطنها غالبية مسلمة. لذلك كانت نسبة المسلمين فيها أكثر من 99 في المائة. وبعد قيامها، هاجر إليها عشرات الآلاف من العائلات المسلمة الهندية واستقرت فيها.

ومنذ البداية، كان الإسلام هو الأساس الشرعي لقيام دولة باكستان، وتم جمع القوميات المتعددة فيها تحت هذه الشرعية الإسلامية، وكان من الضروري والحال هذه أن يتم الاهتمام بتدريس الدين الإسلامي بهدف ترسيخ وحدة البلاد. فافتتحت المدارس الدينية التي تدرس القرآن والسُنّة والفقه الإسلامي، حتى أصبح هناك الآن نحو ثلاث عشرة ألف مدرسة. وكانت هذه المدارس وما تزال تستقطب آلاف الطلاب من جميع أنحاء العالم الإسلامي، ولاسيما من جنوب شرق آسيا، وأيضاً من الجاليات الإسلامية المهاجرة في أوروبا وأمريكا للدراسة فيها.

أثناء صراع الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي السابق، تم النظر إلى هذه المدارس من قبل الولايات المتحدة باعتبارها مكاناً خصباً لإنتاج التطرف الإسلامي لمواجهة المدّ الشيوعي العالمي. ولعبت هذه المدارس دوراً مهماً في إنتاج ldquo;المجاهدينrdquo; لقتال الشيوعيين في أفغانستان خلال احتلال السوفييت لها في الثمانينات من القرن الماضي. ولذا كانت هذه المدارس تتلقى دعماً مادياً كبيراً من قبل الولايات المتحدة ومن جميع الدول الغربية ومن بعض الدول العربية. وقد أدى ذلك إلى تقوية التيارات الإسلامية في باكستان حتى أصبحت تمثل دولة داخل الدولة.

وبعد انتهاء الحرب الباردة بانهيار الاتحاد السوفييتي عام ،1991 لم يعد ثمة عدو تبرر الولايات المتحدة بوجوده هيمنتها على العالم، وكان لا بد من اختراع عدو جديد. وأصبح الإسلام هذا العدو، عندما وقعت أحداث 11 سبتمبر/ أيلول ،2001 أعلنت الولايات المتحدة على الفور حربها المبيتة ضد ldquo;الإرهابrdquo; أو الإسلام. وأصبحت المدارس الدينية والتيارات الإسلامية عدواً مباشراً للحضارة الغربية، يجب القضاء عليه.

وأعلنت الحكومة الباكستانية المرتبطة بالعجلة الأمريكية، منذ البداية، وقوفها إلى جانب الغرب في الحرب ضد ldquo;الإرهابrdquo;. ولذلك سحبت دعمها عن حركة طالبان الأفغانية وتركتها تموت تحت قصف الطائرات الأمريكية، كما بدأت تلاحق الإسلاميين في باكستان وتزجّ بهم في السجون. ووصل أمر الملاحقة اليوم إلى المدارس الدينية، فأصدر الرئيس مشرف قراراً يقضي بأن تسجل المدارس الدينية نفسها لدى الحكومة، وأن تكشف عن مصادر تمويلها، والامتناع عن تدريس مواد تثير الحقد والكراهية، وأن يتم طرد الطلاب الأجانب من تلك المدارس التي ظلت تعمل على سجيتها قرابة أكثر من خمسين عاماً لم تتدخل الحكومة بها، ولم تسأل عن مصادر تمويلها، ولا ماذا تدرس، ولا من أين يأتي الطلاب إليها. أما الآن، فإنه لم يعد ثمة مجال لأن تبقى هذه المدارس خارج إطار الرقابة الأمريكية. وألحّت الحكومة الباكستانية في تنفيذ قرارها، لكن ldquo;تحالف مجلس العمل الموحّدrdquo; وهو ائتلاف ديني سياسي، رفض تنفيذ القرار وقرر مجابهة الحكومة والاستمرار على النهج السابق في المدارس الدينية. وبات الأمر وكأن ثمة مواجهة ستقع بين الحكومة والتيارات الإسلامية.

والواقع أن تنفيذ هذا القرار سيؤدي في المستقبل إلى تقليص نفوذ الإسلام في باكستان بعدما تم تقليص قواعده هناك، الأمر الذي قد يؤدي إلى تقويض الشرعية الإسلامية التي قامت على أساسها دولة باكستان، وبالتالي، إلى حدوث فتن أهلية بين مختلف القوميات التي يتكوّن منها الشعب الباكستاني. ولكن هكذا هو حال الدول في كل مرحلة من مراحلها، وفي كل حالة من حالاتها تمر في الطريق العسف والمدّ والجزر بين الثوابت والتصورات ومسالك الضمير. من ذا ينكر على باكستان الإسلامية مذ أن فتحت مدارسها وأبوابها وقلبها لكل طالب المعرفة يستنير بنورها ويعيش في كنفها وينعم بخيرها وخدماتها، وكانت تدفع في كل ناحية عن الإسلام والمسلمين؟ ولكن اليوم يخفت رونقها الديني وتتغير من النقيض إلى النقيض وترتدّ عاجزة عن فلقها وضيافتها لتنتهي مهمتها ما بين بصرها وبصيرتها إلى حدّ الذوب في دائرة التوجهات والمصير البعيد.

* كاتب من الإمارات

[email protected]

www.mohammedkhalifa.c