فيليب ستيفنز


حين قرأت أحدث ملف عن انتهاكات حقوق الإنسان في العالم، كان أول ما تبادر إلى ذهني تساؤل حول سبب التركيز على البيت الأبيض. صحيح أن واقعة quot;أبو غريبquot; كانت فصلاً مخزياً. كذلك إصرار ديك تشيني، نائب الرئيس الأمريكي، على السماح لأجهزة المخابرات الأمريكية بالاستهانة بالقوانين التي تحظر المعاملة غير الإنسانية للمحتجزين أمر عصي على الفهم، وتزويق ينم عن ذوق سقيم في الوقت نفسه. وهذا الأسبوع فقط سمعت مسؤولاً كبيراً في إدارة جورج بوش الأولى يقول إن أبسط جواب على مشكلة خليج جوانتانامو هو إغلاقه.
ومع ذلك، لماذا لم يبدأ هذا الملف المروع، الذي صدر عن منظمة هيومان رايتس ووتش* Human Rights Watch، بأعمال التطهير العرقي وكذلك أعمال القتل والتعذيب والقمع التي تتم بشكل منظم في أماكن أخرى من العالم؟ ألم يكن بإمكان هذه المنظمة، وهي الحارس الشجاع لقيم السلوك البشري، أن تبدأ تقريرها، مثلاً، بالأعمال الوحشية التي تجري يومياً في دارفور، أو الفظائع التي تُرتكب في جمهورية الكونجو الديمقراطية أو الشيشان؟ ولماذا لا تلقي المنظمة نظرة فاحصة على الصين، خصوصاً أننا نبدو جميعاً مذهولين بظهورها، مرة أخرى، قوة عالمية؟
لكن الذي حدث هو أن كينيث روث، مدير المنظمة، يبدأ مراجعته لعام 2005 بإدانة لاذعة للولايات المتحدة. وحجته في ذلك هي أن أعمال التعذيب وإساءة المعاملة التي تمارسها الولايات المتحدة الآن لا يمكن النظر إليها ببساطة باعتبارها تجاوزات عرضية، وإنما هي عنصر أساسي في استراتيجية مكافحة الإرهاب لدى إدارة الرئيس بوش.
ويقول التقرير إن القسوة في معاملة مَن يُشتبه في أنهم إرهابيون، والسجون السرية، وإرسال السجناء إلى أنظمة معروفة بأنها تمارس التعذيب، ليست أعمالاً تخالف القانون فحسب، وإنما تؤدي إلى نتائج عكسية. فهي تساعد على تجنيد المتطرفين الذين يتميزون بالعنف، وتضعف التأييد الشعبي للحرب على الإرهاب، وتعمل على تكوين مجموعة من quot;المحتجزين غير القابلين للمحاكمةquot;.
كذلك أصدقاء أمريكا وحلفاؤها ملومون. فالبريطانيون متواطئون في أعمال التعذيب. أما الكنديون، فإن مواقفهم متأرجحة رغم الغضب الشعبي الكبير. والاتحاد الأوروبي أخفق في تولي القيادة: وخنوعه أمام موسكو يجعل مخاوف الولايات المتحدة بشأن حقوق الإنسان في روسيا تبدو quot;في غاية القوة والنشاطquot;.
وحتى لا نظلم روث نقول إنه ذكر في مطلع تقريره أن الولايات المتحدة ليست بأي حال من الأحوال أسوأ دولة في انتهاك مقاييس العالم المتحضر، لكنها الأقوى تأثيراً. وبالتالي، فإن دورها التاريخي في تعزيز حكم القانون والدفاع عن كرامة الإنسان في أماكن مختلفة من العالم يُصاب في الصميم حين تعمل على تجاهل مقاييسها هي بهذا الشكل الفاضح.


نعود الآن إلى الأسئلة التي طرحتها في بداية هذا المقال. وللإجابة عنها أقول إن على الديمقراطيات الغربية أن تتوقع دائماً ألاّ تُترك لها شاردة ولا واردة في هذا الشأن. ونحن محقون في مطالبة حكوماتنا بالتزام يفوق كثيراً ما نتوقعه من الحكام الاستبداديين المقيتين والطغاة الذين لا يكترثون إلا بأنفسهم، وتشوّه أنظمتهم المشهد العالمي. وهذا هو موطن قوتنا. وأمريكا، بطبيعة الحال، هي أقوى ديمقراطية، وفي الوقت نفسه أقوى دولة في العالم.
وليس فيما سبق أي عداوة لأمريكا. فالرئيس بوش يخوض الحرب ضد الإرهاب باسم القيم. وغالباً ما نسي الكثيرون في السنوات الأخيرة أن الفضل في إيجاد باقة متطورة من المعاهدات والمؤسسات الهادفة إلى دعم حكم القانون على المستوى الدولي إنما يعود أكثره إلى الولايات المتحدة. ويتوقع أصدقائي ومعارفي الأمريكيون، بل يطالبون، أن تُقاس الولايات المتحدة بأرقى المقاييس. وبذلك أصبح تشيني هو الشاذ من بينهم: حظي الاقتراح الذي تقدم به جون ماكين إلى مجلس الشيوخ الأمريكي لفرض منع كامل على الإساءة إلى المحتجزين بتأييد ساحق من قِبل الجمهوريين والديمقراطيين على حد سواء.
ولذلك نقول إن من الضروري أن تكون الديمقراطيات الليبرالية موضع مساءلة، وأن تُنتقد بقسوة على الملأ حين تنحرف عن مبادئها هي نفسها.
لكن من المهم ألا ننسى كذلك أن الانتهاكات التي لا تعدو كونها أمراً خارجاً عن المألوف في واشنطن، إنما هي القاعدة التي يسير عليها كثير من الأنظمة في مختلف بقاع الأرض. ومكمن الخطر في هذا المقام هو أن الانتقاد الذي لا يكلف كثيراً، الموجه لسياسات الولايات المتحدة، أو لحلفائها إن شئت، يمكن أن يصبح بديلاً عن التمحيص الجاد لأفعال الحكام المستبدين والطغاة في الدول الأخرى.
وليست هذه تهمة نوجهها إلى منظمة هيومان رايتس ووتش. فرغم كل التركيز الغريب (على الولايات المتحدة) في تقريرها الأخير، إلا أنها جاهدت بضراوة لإماطة اللثام عن الأنظمة الكريهة التي تحتمي خلف حصون منيعة في مختلف أنحاء العالم. ولكن الموضوع من اختصاص جماعات حقوق الإنسان بشكل عام ومؤيديها.
وأغلب الظن عندي أنه بالنسبة لكثير من أعضاء هذه الجماعات الليبرالية إلى حد كبير، فإن مهاجمة سلوك الإدارة الأمريكية الحالية هي في الغالب ذريعة لعدم مهاجمة الانتهاكات الفظيعة لعدد من الأنظمة في إفريقيا وآسيا، بل وفي أوروبا أيضا. وأحياناً أتساءل: هؤلاء الذين هم على أتم استعداد لتعنيف الرئيس بوش، كم من المرات هم على استعداد للنزول إلى الشوارع للدفاع عن الحقوق السياسية في كوريا الشمالية مثلاً؟ ومتى كانت آخر مرة أعرب فيها مثقفو أوروبا الليبراليون عن سخطهم تجاه روسيا البيضاء، الجمهورية التي تقع على عتبة دارهم؟ وكم كان عدد الغاضبين على تواطؤ حكومة جنوب إفريقيا في حكم الرعب الذي أداره روبرت موجابي في زيمبابوي؟
وحين تستمع إلى دعاة حقوق الإنسان يبدو من الصعب أحياناً أن تعرف مَن الذي يجب أن يلام على أسوأ الجرائم. فهل كان المحتجون الذين ذبحوا عام 2005 على أيدي قوات الأمن الأوزبكية ضحايا طاغية أوزبكستان؟ أم هل يجب أن يكون الملوم هو دونالد رامسفيلد بسبب رغبته القوية في وضع قواعد أمريكية في أوزبكستان؟ وفي المقابل لست أرى الكثير من النقاش الجاد حول الكيفية التي يجب أن تتعامل بها الولايات المتحدة والقوى الغربية الأخرى مع الأنظمة الوحشية، اللهم إلا إذا اعتبرنا اللقاءات التي تقام لصالح أحزاب المعارضة في بورما، أو الاجتماعات الحاشدة التي تنظم من وقت لآخر لصالح الذين يعانون في إفريقيا، ضرباً من النقاش الجاد. فأين ينتهي الواجب المزعوم لمساندة حقوق الإنسان العالمية وأين تبدأ الإمبريالية الأمريكية؟
إن الذين يعارضون الحرب في العراق لن يتوقفوا عن إعطاء الأسباب بأن غزو العراق كان مخالفاً للقانون. لكن أريد أن أعرف كيف كان ينبغي للغرب أن يرد على حكم الرعب الذي كان يمارسه صدام حسين ضد شعبه؟ وكان الجواب الجاهز على هذا السؤال هو العقوبات التجارية. لكننا تعلمنا من التجربة أن الحكام لديهم الخبرة في إعفاء أنفسهم من العواقب المترتبة على ذلك، وأن الشعب عملياً هو الذي يتلقى العقاب. واستخدام القوة لا يمكن أن يكون في كل مكان، لكن هل استخدام القوة خطأ دائماً؟ هذه الأسئلة وغيرها نادراً ما تدور بخلد المحافظين التقليديين. ويرى الواقعيون أن من الأفضل أن نترك كل أمة وشأنها، وأن تنتهي التزامات الغرب عند حدوده. لكن ليس بوسع الليبراليين أن يتيحوا لأنفسهم هذا المخرج.
دعوني أقولها بوضوح: إن أعمال الاعتقال التعسفي والتعذيب هي استهانة بالقيم الأمريكية، ومن هذا الباب فهي تحط من قدر القوة الأمريكية وتضعفها. لكن يجب ألاّ نتظاهر بأن حقوق الإنسان تبدأ وتنتهي بنائب الرئيس تشيني. فلماذا لا نقوم من حين إلى آخر بمسيرة ضد الجهاديين والصداميين الذين يذبحون العراقيين بشكل يومي؟