ماذا في الكويت
سمير عطاالله


شتاء 1964، في مثل هذه الايام، حدثت في الكويت ازمة برلمانية دستورية كبرى كادت ان تقسم البلد المستقل حديثا. وجاء ميشال ابو جودة موفدا من quot;النهارquot; ثم عاد الى بيروت ليكتب quot;ماذا في الكويتquot;. ولا جواب كليا. فالحقيقة ان احدا لم يكن يعرف على وجه الضبط في الكويت. ولا الآن نعرف تماما. فالذي نراه، ليس هو كل الحقيقة، لان الاسرة تعوّدت، عند مفاصل التغيير، ان تحفظ، قدر المستطاع، داخل ابواب البيت اي خلاف. وثمة سابقتان مشابهتان استبعد فيهما رجلان من الاقوياء: الشيخ عبدالله المبارك، والشيخ جابر العلي. وقد خرج الاول الى بيروت ثم القاهرة وصداقة جمال عبد الناصر فالسادات، فيما بقي جابر العلي في ديوانيته في حولّي، يستقبل الزائرين والاصدقاء ويمارس المتعتين: المشي الطويل في الصحراء والقراءة الكثيرة.

كان هناك دائما جناحان في الاسرة، يرتضي احدهما، قرار التحكيم. او الغالبية. وفي بلد صغير مثل الكويت كان الخلاف quot;سرا معلناquot;، الجميع يعرفون به لكن لا احد يتحدث عنه الا في المجالس، صغيرها وكبيرها. وفي الكويت هوس اسمه quot;الديوانياتquot;، وهي اشبه برتبة سياسية ومرتبة اجتماعية. وكلما علا شأن صاحب الديوانية تكاثر عدد زائريه ومعيديه: الله بالخير.

السنوات الاخيرة شهدت صراعا خفيا ومرئيا، بين رجل الكويت القوي، الشيخ صباح الاحمد، وولي العهد الشيخ سعد السالم. وكانت نتائج هذا الصراع تظهر في طبيعة تشكيل الحكومات وفي حجم حصة كل منهما. وكما ان اميركا بعد 11 ايلول هي غير اميركا ما قبلها، فان الكويت بعد الغزو العراقي هي كويت اخرى. اي كويت لا تستطيع احتمال امكانات الخطأ وسرعة العطب. ولذلك قام بعد التحرير تيار سياسي يدعو، في الصحافة، وبشكل مباشر وعلني، الى خفض صلاحيات الشيخ سعد العبدالله وابقائه رمزا من رموز الدولة. وصدرت مثل هذه الدعوات في مجلة اصدرها النجل الاكبر لصباح الاحمد، الشيخ ناصر، كما صدرت باقلام كتّاب بارزين في صحيفة quot;القبسquot; التي تمثل تجار الكويت والخط الليبرالي المستقل.

ولم يرد الشيخ سعد على هذه الدعوات، لا بالاصغاء اليها، ولا بمعاداة اصحابها، ومضت الكويت تعيش يومياتها كما اعتادت، الى ان اصيب الشيخ سعد بالمرض واستدعت المسألة ان يتخلى عن رئاسة الوزراء، مستبقيا ولاية العهد. وبعدها اصبحت حكومة صباح الاحمد حكومة صباح الاحمد، فلا شراكة ظاهرة او خفية. وجلس سعد العبدالله في quot;قصر الشعبquot; يبتعد قليلا قليلا عن صورة الحكم، ويخطفه اشتداد المرض الى عزلته، بعدما اصبح صعبا عليه التعرف الى عوّاده.

وعندما افقد المرض الشيخ سعد بقايا الذاكرة وبقايا القوى، قام من يقترح اعفاءه من ولاية العهد، بحيث اذا حل الموعد مع القدر، لا يصل الى مقعد الامير ولا تقع الكويت في ازمة. لكن الامير الراحل الشيخ جابر الاحمد رفض الموافقة على الفكرة. وخشي ان تفسر الخطوة على انها انحياز منه الى شقيقه، الشيخ صباح، فيما هو الرجل الذي ترفّع عن اي ميل أسري.

وحدث مع وفاة الامير ما كان متوقعا، تلقائيا اصبح ولي العهد سعد العبدالله اميرا على البلاد. ولكن كيف يتم ذلك والرجل غير قادر حتى على تلاوة القسم؟ هل تأخذ الاسرة، وبالتالي الدولة، حقه التلقائي في الخلافة، ام تأخذ في الاعتبار ان هذه هي الكويت، رابع منتج للنفط في العالم واكبر دولة عربية على الخليج، وصاحبة اول تجربة دستورية ديموقراطية؟

عندما بدأت الازمة في الكويت شعر الخليج برمته بالخوف. وهبطت البورصات في المنطقة على نحو حاد. ووقفت الاسر الحاكمة تترقب امام اول حالة من نوعها. فبعد وفاة الشيخ زايد رئيس دولة الامارات انتقلت السلطة بكل هدوء الى بكره الشيخ خليفة، وبعد وفاة حاكم دبي الشيخ مكتوم بن راشد، انتقل الحكم الى نائبه وشقيقه الشيخ محمد، ولكن ها هي الكويت في مأزق مرير وامام خيار صعب: اذا احترمت تقاليد العائلة، كان لها امير غير قادر على استقبال رؤساء الدول والضيوف، وربما حتى اهل البلد.

تولى الشيخ سالم العلي تزعّم الجناح المنادي بامارة الشيخ سعد. وكان الشيخ سالم قد بدأ منذ نحو عامين الادلاء بتصريحات حول quot;احترام التقاليدquot;. وعندما كانت هذه التصريحات تثير ضجة وقلقا في البلد، كان يتوقف لفترة ثم يعود. وبعد وفاة الامير تحرك دفعة واحدة، متزعما جناحا صغيرا من العائلة، فيما انضم الى الشيخ صباح الاحمد عدد من ابرز افراد جناح quot;السالمquot; في العائلة، بينهم ابناء شقيق سالم العلي.

لجأ الفريق الاكبر في نهاية المطاف الى الحل الاسوأ او الافظع. اي احالة الامير الجديد على لجنة طبية تقرر مدى اهليته للحكم. وهذه سابقة كانت الكويت في غنى عنها. وكان ارشيدوق النمسا فردينان، الذي ادى اغتياله الى اشعال الحرب العالمية الاولى، مصابا بمرض مشابه. فأُرسل مع طبيبه الخاص الى مصر، بعيدا عن وطأة الاستقبالات، غير ان مرضه كان في المراحل الاولى لا في المرحلة الاخيرة.

تحركت قوى كثيرة، داخل الكويت وخارجها. بعضها للمصالحة، وبعضها الآخر للتحريض والانتقام، وربما حتى لتقويض النظام. ووجدت الدولة امامها مرجعا واحدا هو الدستور. واصبح امر الاسرة في يد ممثلي المجتمع الانتخابي. وبذلك لعب رئيس مجلس الامة جاسم الخرافي دورا نموذجيا في البقاء على الحياد والعمل باحكام الدستور. ورغم مرارة الواقع، برزت الكويت كدولة ديموقراطية، الكلمة المرجحة فيها للنص الدستوري. ورغم الاختلاف الحاد والنزاع على مكامن السلطة، احترم الفريقان قدسية الدستور، ولم يعتبرا بنوده مجرد كلام يكتب ويُمحى. ولا استسهل احد منهما عملية الدوس عليه quot;لمرة واحدةquot; كما حدث في بلد يعمل بالدستور منذ 1926.

ما حدث في الكويت لم يكن مجرد ازمة. لقد كان خضة متوقعة اخافت العالم على استقرار دولة واقعة على رأس الخليج الهادئ وحدود العراق المضطرب. ومنذ حرب الجوار لعبت الكويت دورا تموينيا هائلا. وبلغت رساميل quot;شركة المخازنquot; وحدها 17 مليار دولار. وعرفت البورصة الكويتية مستويات خيالية لم تعرفها من قبل. ثم فجأة رأت الدولة نفسها امام هذا النوع النادر من الازمات. فالمعهود ان يصاب الحكام بالمرض وهم في الحكم، فلا تسمح المشاعر بعزلهم، اما ان يعيّن حاكم اشتد المرض عليه، فقد كان في ذلك شيء من... حتى.

على ان الكويت عادت الى الحل في اللحظة الاخيرة. وتقدم المنطق ومصلحة البلد المغالاة في التمسك بتقليد التناوب، امام واقع صحي مرير. واخيرا نودي على رجل الكويت اميرا. وهي مسيرة لم تبدأ امس.