...laquo;العائدون من العراقraquo; يطرقون أبواب لبنان من الجنوب والبقاع


بيروت - حازم الأمين

ألقى كشف شبكة laquo;ارهابيةraquo; في بيروت، قبل نحو اسبوعين، اضواء على احتمالات تزايد نشاطات لعناصر مرتبطة بتنظيم laquo;القاعدةraquo; في لبنان، خصوصاً ان هذا الكشف ترافق مع تعاظم الكلام في عدد من الدول على ظاهرة ما يسمى laquo;العائدين من العراقraquo;. واذا كان لبنان لم يشهد في السابق نشاطات تذكر لتنظيم laquo;القاعدةraquo;، كما لم يشهد ما سمّته الدول اواسط تسعينات القرن العشرين laquo;عودة المجاهدينraquo; سواء من افغانستان أو الشيشان وألبانيا وغيرها من بلاد laquo;الجهادraquo;، فإنه عايش من دون شك ظاهرة laquo;العائدين من العراقraquo;، إذ توجه عشرات وربما مئات من اللبنانيين، خصوصاً من منطقة البقاع والفلسطينيين من مخيمات لبنان الى العراق والتحقوا هناك بجماعات laquo;قاعديةraquo;، ونفذ عدد كبير منهم عمليات انتحارية، ونعتهم المواقع الإلكترونية التابعة لتنظيم laquo;ابي مصعب الزرقاويraquo;، علماً ان مصدراً امنياً عراقياً قال لـ laquo;الحياةraquo; ان laquo;هناك عشرات المعتقلين اللبنانيين والفلسطينيين في السجون العراقية ممن أوقفوا في سياق الحرب على الإرهابraquo;. وادى كشف هذه الشبكة، كما أكد مصدر امني لبناني لـ laquo;الحياةraquo;، الى كشف ترابط laquo;الوظائفraquo; الأمنية لهذا النوع من الجماعات، إذ جاء في سياق التحقيق في قضية احمد ابو عدس، الشاب الذي ظهر في شريط فيديو معلناً تنفيذه عملية اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري. وتبيّن ان من وظائف هذه الشبكة تجنيد متطوعين للقتال في العراق. ورجح المصدر ان يكون افرادها على علاقة بالزرقاوي، وكذلك بأجهزة امنية اقليمية.

laquo;الحياةraquo; اعدت تحقيقاً من حلقتين تضمن لقاءات مع جماعات ارسلت متطوعين الى العراق، فتكشفت معلومات عن اسماء laquo;انتحاريينraquo; لبنانيين وفلسطينيين.

ورصد التحقيق البيئة المستقبلة لقضية laquo;الجهادraquo; في العراق، ولأنواع الجماعات المنخرطة فيه، محاولاً الاقتراب من الإجابة عن سؤال بدا اخيراً ملحاً في لبنان، ويتعلق بمدى انتشار جماعات laquo;القاعدةraquo; في هذا البلد. وهنا يصبح تعريف هذا التنظيم ضرورياً، اذ حاول بعضهم، وبينهم الأجهزة الأمنية استبعاد هذا الافتراض مؤكدين ان الجماعات التكفيرية في لبنان ترتبط ربما بالجماعات laquo;الإرهابيةraquo; العراقية اكثر من ارتباطها بالتنظيم التقليدي لـ laquo;القاعدةraquo;. لكن هذا التمييز يفقد قيمته اذا قيس بالنتائج. الأكيد ان لبنان لم يشهد في السابق laquo;خروجاًraquo; الى بلاد laquo;الجهادraquo; القديمة مثل افغانستان، مع استثناءات طفيفة، ولكن من المنتظر ظهور نتائج laquo;الخروجraquo; الى بلاد laquo;الجهادraquo; الجديدة، خصوصاً ان لغاتٍ ولهجاتٍ واطباعاً بدأت تتسرب من هناك الى اهالي laquo;المجاهدينraquo;... ومجتمعاتهم الصغيرة في لبنان.

غرباء يأتون في laquo;موسم القاعدةraquo; لتجنيد انتحاريين للعراق (1 من2) ... ثقافة laquo;المهاجر الجهاديةraquo; تغزو مخيم عين الحلوة... والزرقاوي يسجل اختراقاً في لبنان

ح . أ: مخيم عين الحلوة (جنوب لبنان)

قبل نحو اسبوعين أعلنت السلطات اللبنانية كشف شبكة إرهابية في لبنان قالت مصادر صحافية في حينه انها تنتمي الى تنظيم القاعدة، فيما رجحت الأجهزة الأمنية اللبنانية ان يكون عناصر هذه الشبكة قدموا من سورية. وأعضاء هذه الشبكة من جنسيات سورية ولبنانية وأردنية وسعودية. طرحت هذه القضية مسألة وجود شبكات لتنظيم القاعدة في لبنان. laquo;الحياةraquo; اجرت تحقيقاً من حلقتين حول الجماعات الأصولية التكفيرية في لبنان ومدى ارتباطها بتنظيم القاعدة.

ويبدو ان قضية الذهاب الى العراق هي واحدة من القضايا التي تلقي أضواء فعلية على هذه المسألة، اذ شهد لبنان على نحو واسع ظاهرة laquo;الخروجraquo; الى العراق. وقتل عشرات من هؤلاء الشباب في المناطق العراقية المختلفة. تنظيم laquo;عصبة الأنصارraquo; المتمركز في مخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين. وهنا الحلقة الأولى من هذا التحقيق:

كان مقر حركة laquo;فتحraquo; المحاذي لمستشفى القدس في مخيم عين الحلوة في جنوب لبنان يعج بأعضاء اللجان الشعبية في المخيم، وكانت الهواتف الخليوية لهؤلاء، لا تتوقف عن الرنين في ذلك اليوم الماطر من الشهر الجاري. القضية كانت تعرّض ابنة غاندي السحمراني الى تحرشات اثناء مرورها في منطقة التعمير التحتاني التي تفصل المخيم عن السكن اللبناني، والتي يختلط فيها السكن اللبناني بالفلسطيني، وهي ايضاً المنطقة التي تفصل نفوذ المنظمات الفلسطينية عن نفوذ الجيش اللبناني الموجود على مداخل المخيم. ومنطقة التعمير التحتاني التي يتقاطع فيها النفوذان الأمنيان، اللبناني والفلسطيني، تمتد مسافة تبلغ نحو 400 متر، تتكاثف فيها المباني والمنازل والمحال التجارية. ويطل من مداخل صغيرة تفضي الى أزقة وردهات، شبان مسلحون على نحو حذر وقلق.

ولكن ان تستنفر اللجان الشعبية إثر حادث عادي لطالما شهدته تلك المناطق، ففي الأمر ما يستدعي التساؤل! والجواب ان غاندي السحمراني، اي والد الفتاة هو أحد أعضاء تنظيم laquo;جند الشامraquo;، وهو من اللبنانيين الذين فروا من مدينة طرابلس ولجأوا الى المخيم بعد أحداث منطقة الضنية في شمال لبنان عام 2000. والتنظيم انشق عن laquo;عصبة الأنصارraquo; التي يترأسها المحكوم بالإعدام غيابياً احمد عبدالكريم السعدي، وهو يتشكل من مجموعة صغيرة معظم أفرادها من اللبنانيين المنشقين عن laquo;العصبةraquo; احتجاجاً على تسليمها المدعو بديع حمادة الى الجيش اللبناني بعدما قتل ثلاثة من جنوده.

أما إقامة السحمراني في منطقة التعمير التحتاني وهي المنطقة الضائعة النفوذ أو المنعدمته، فتعود الى رغبة أمنية فلسطينية ولبنانية في عدم التخلص من هذه الجماعة، وفي عدم إيوائها في آن. فالسحمراني ومعه بقية مطلوبي الضنية من اللبنانيين، ومعه ايضاً عدد من الفلسطينيين، كانوا يقيمون في الأحياء الداخلية للمخيم، الى ان راحت الوقائع تزجر بهم الى حدوده الخارجية. ومنطقة التعمير التحتاني عامرة بالوقائع والمفارقات الناجمة عن انعدام السلطة وضياعها. فالمخيم الفلسطيني الذي لم يعد يحتمل الشبهات، قذف بكثيرين من مسببيها الى هذه المنطقة والى جوارها. والجيش اللبناني أفسح في المجال لنشوء منطقة عازلة بينه وبين المخيم من الجهة الغربية، علماً ان التعمير التحتاني هو امتداد لأحياء الزيب وبستان اليهودي والصفصاف التي تسيطر عليها laquo;عصبة الأنصارraquo;. والى منطقة التعمير تصل أصوات مآذن مساجد laquo;العصبةraquo; في المخيم زافة laquo;الشهداءraquo; من أبناء المخيم الذين يسقطون في العراق.

ويبدو ان المخيم لفظ الى ضفافه الكثير من الأخلاط التي تجمعت فيه، فهذا حي السكة او ما يسمى laquo;بستان اليهوديraquo; الواقع في الجهة الغربية من المخيم، وله اسم شعبي ثالث هو laquo;منطقة التناكياتraquo;، في إشارة الى منازله المبنية من laquo;التنكraquo;، اي بقايا المعادن الرخيصة. ويتشكل سكانه من أخلاط لبنانية وفلسطينية وسورية وعراقية وكردية، وينشط فيه تنظيم laquo;جند الشامraquo; كواحد من تجليات انعدام التجانس. هذا الحي يشبه من الناحية الأمنية والاجتماعية حي التعمير، وهو يجاوره ويحاذيه أصلاً، ويقيم فيه عدد من المطلوبين الذين تقول اللجان الشعبية انهم خارج المخيم ولا سلطة لها في المنطقة التي يقيمون فيها لتسليمهم الى الجيش اللبناني، في حين ينكفئ الأخير الى نقطة في آخر الحي، مما يتيح لهؤلاء الإقامة والتنقل في هذه المسافة الضيقة.

إنها واحات النشاطات الملتبسة وغير الملتزمة بالقانون. فيها تُصِّرف الأجهزة الأمنية المختلفة، والجماعات الأهلية حاجاتها غير الشرعية، وفيها أيضاً تنكشف بعضها على بعض، وتتبادل الخدمات والضربات. حين ينفي المخيم عن نفسه تهمة إيوائه مطلوبين وتحوّله بؤرة أمنية، يقول ان هؤلاء موجودون في منطقة التعمير التحتاني او في laquo;التناكياتraquo;. وعندما تُسأل الأجهزة اللبنانية عن هؤلاء تقول انهم في المخيم. وحين تطلب الفصائل الفلسطينية من laquo;عصبة الأنصارraquo; عدم استقبال أحد المطلوبين او تسليم آخر، ترسل الأخيرة هؤلاء الى تلك المناطق. ويبدو ان ثمة وظائف أخرى أضحت مرتبطة بمناطق انعدام النفوذ حول مخيم عين الحلوة. فأولئك الغرباء الذين يصلون في مواسم محددة الى المخيم، لاصطحاب متطوعين الى العراق بعيداً من أعين التنظيمات الفلسطينية، صاروا بحسب مصدر أمني فلسطيني، يصلون الى هذه الجزر على ضفاف المخيم، ومنها يشرعون في بحثهم واتصالاتهم. وفي حين يقول المصدر الفلسطيني انهم يختارون هذه المناطق لتفادي الخضوع للرقابة، يشعر زائر حي التعمير التحتاني انه تحت رقابة مضاعفة العيون، مما يدفع الى الاعتقاد بأن التورط في هذه المسألة لا يقتصر على التنظيمات الأصولية الصغيرة المنتشرة في المخيم.

ولكن من هم هؤلاء الغرباء الذين تحدث عنهم اكثر من مسؤول في المخيم من دون أن يحددهم؟ قال الجميع ان تحديد هويتهم مسألة مستحيلة، مشيرين الى إمكانات مالية كبيرة يتمتعون بها والى حمايات غير منظورة تؤمن لهم الدخول والخروج من معابر الحدود. مصدر رسمي لبناني قال لـ laquo;الحياةraquo; ان الشبكة التيأ القبض على أفرادها قبل نحو اسبوعين في بيروت وتضم ستة سوريين وثلاثة فلسطينيين وأردنياً ولبنانياً، كان من احدى مهماتها توفير متطوعين من لبنان الى العراق. ولفت الى ان كل الوثائق التي ضبطت في حوزة هؤلاء مزورة، وانهم استأجروا أربعة منازل في بيروت راحوا يتحركون بينها، مما يشير الى قدرات مادية ولوجستية كبيرة. وأشار المصدر الى ان هؤلاء جاؤوا الى لبنان من طريق سورية، ومن المرجح ان يكونوا أعضاء في تنظيم ابي مصعب الزرقاوي. وأعلن ان كشف الشبكة جاء من خلال القبض على المتهم اللبناني حسن عبدالله حلاق في مدينة صيدا المحاذية لمخيم عين الحلوة.

ما كشفه المصدر اللبناني يلقي بعض الأضواء على ظاهرة الزوار الغرباء لمخيم عين الحلوة. وكشف اسم الحلاق، وهو نجل رجل دين صيداوي، يلقي أضواء أخرى. فالمخيم ليس وحده من يرسل أبناءه الى العراق، بل ثمة منطقة يتقاطع فيها اللبناني بالفلسطيني ويذوبان في هويات أوسع، تشكل التنظيمات الإسلامية من الطرفين قنواتها. هذا ما يفسر ورود اسماء لبنانية بين المُرسلين الى العراق من أبناء العائلات الصيداوية، مثل القبلاوي والكردي والعارفي والحلاق، ومن بين هؤلاء أبناء رجال دين ترجح المصادر ان يكونوا ذهبوا الى العراق من دون علم آبائهم.

يجزم مسؤولو التنظيمات العسكرية في مخيم عين الحلوة أن لا اثر لتنظيم laquo;القاعدةraquo; ولأصوله وفروعه في المخيم. والذهاب لـ laquo;الجهادraquo; في العراق، وإن كان ناشطاً، لا يشكل كما يؤكدون دليلاً على وجود laquo;القاعدةraquo; في المخيم. عشرات من أبناء المخيم من المنتمين الى laquo;عصبة الأنصارraquo; والى تنظيمات أخرى ذهبوا الى العراق. كثيرون منهم نفذوا عمليات انتحارية ونعتهم laquo;قاعدة الجهاد في بلاد الرافدينraquo; على مواقعها على الانترنت، وفي المخيم تولى مسجد الطوارئ التابع لـ laquo;عصبة الأنصارraquo; اذاعة خبر laquo;استشهادهمraquo; في العراق، من دون ان تتولى العصبة التي ينتمي إليها معظمهم تبنيهم كعناصر منها. خرج على هذه القاعدة استثناء واحد، إذ عندما وصل خبر مقتل صالح الشايب، وهو فلسطيني من أبناء المخيم، سارعت العصبة الى تأكيد انتمائه اليها، لكنها تراجعت لاحقاً وسحبت بيان تبنيه، وقيل ان التراجع تلى ضغوطاً مارستها القوى الفلسطينية التي لا ترغب في إعلان وجود طرف يرسل ناشطيه من المخيم الى العراق.

تضاعفت كثافة الشعارات والصور المنتشرة والملصقة على الجدران والمباني في المخيم. ثمة تجاور مخيف للشعارات المرفوعة. صور ياسر عرفات صارت صوراً لرئيس ميتٍ. ثمة أمر في هذه الصور يشعرك بهذه الحقيقة. أما اللافتات فاشتعلت بالقضايا التي تشغل المخيم، من دعم المقاومة في لبنان والعراق الى إدانة الاحتلال الإسرائيلي. وفيما اللافتات على هذا النحو بدا ان كثيراً منها لم يعد يقتصر على الكلمات وإنما أضيفت إليه صور ورسوم، وكأن ماكينة التعبير والشعارات في المخيم اضخم من ماكينات العيش الأخرى. فالمدارس على حالها منذ سنوات وكذلك المتاجر، اما الطرق فقد زادت بؤساً وضيقاً، وكذلك المنازل التي ازداد عدد سكانها، ومن غير الممكن زيادة عدد غرفها.

أسماء كثيرة أذاعتها مساجد laquo;العصبةraquo; وغيرها لشبان قضوا في العراق كان آخرهم احمد محمود الكردي، وهو لبناني أصلاً ينتمي الى laquo;عصبة الأنصارraquo;، ومن بينهم ايضاً من العصبة عماد الحايك ونضال حسن المصطفى (شقيق أبو عبيدة الناطق باسم العصبة) وصالح الشايب وعمر ديب السعيد وأحمد ياسين، وثمة شابان آخران ينتميان الى تنظيم laquo;أنصار اللهraquo; القريب من laquo;حزب اللهraquo; اللبناني، ويتزعمه المنشق عن حركة laquo;فتحraquo; جمال سليمان، وهما نجله حسن ومحمد عبدالله زيدان. ويؤكد مسؤول في التنظيم ان الشابين ذهبا الى العراق من دون علم laquo;أنصار اللهraquo;، وكذلك حال الشابين أحمد الفران، وهو لبناني كان قريباً من حركة laquo;حماسraquo;، وإبراهيم الخليل الذي ينتمي الى laquo;جبهة التحرير العربيةraquo; الموالية للنظام العراقي السابق.

الطريق من المخيم الى العراق نشط وزاخر بالوقائع التي يرويها ابناء المخيم وإن بصوت خافت. فإلى هؤلاء الذين قتلوا هناك ونعاهم تنظيم الزرقاوي ببيانات تضمنت ظروف laquo;استشهادهمraquo; التي لا تمت الى واقعهم في المخيم بصلات وأسماء متينة، ثمة اسماء أخرى لشبان ذهبوا الى العراق ولم يعودوا بعد، من بينهم سبعة عناصر من laquo;عصبة الأنصارraquo;، ويتصل معظم هؤلاء بأهلهم على نحو دوري، ولهذه الاتصالات وظائف كثيرة بينها laquo;ربط الأهل بقضية الجهادraquo; كما قال مقرب من العصبة، وكذلك تحديد المصائر. فقد سبق مثلاً ان أعلن عن laquo;استشهادraquo; الشاب شحادة شحادة توفيق جوهر في العراق، ولكن laquo;تم الاتصال به وأُكّد عدم صحة الخبرraquo;. وقال قريب لأحد هؤلاء المتصلين من بغداد ان الأهالي يشعرون عندما يتصل بهم أبناؤهم من العراق بأن تغييراً أو تحولاً أصاب أبناءهم هناك، فتدخل في لهجاتهم عبارات laquo;الجهادraquo; القاعدية.

ويبدو ان المخيم يعيد إنتاج اللهجات الجديدة لمقاتليه وانتحارييه في العراق، فيُدخل الكثير منها الى قاموسه الشفهي والكتابي. ويتسرب المعجم laquo;القاعديraquo; الى اللافتات والصور المزدحمة في أنحائه. وهكذا يمكنك ان تقرأ عبارة laquo;بلاد الشامraquo; او laquo;ارض الرافدينraquo; في اللافتات المعلقة في أنحائه، او ان تسمع شيخاً يعطي درساً في مسجد عن مسألة laquo;الولاء والبراءraquo;.

أمر آخر لا بد من رصده في هذا السياق، هو ان الذاهبين الى العراق من المخيم يخلفون وراءهم ثقافة كلامية و laquo;شعاراتيةraquo; مرتبطة بما يمكن ان نسميه laquo;مجتمع الثورة الفلسطينيةraquo; حيث للكلام مفاتيحه المحددة، وكذلك التخاطب وربما التزاوج والتراحم. لكنهم يعيدون صوغ هذه الثقافة وفق ما كسبوه في مجتمعات laquo;الجهادraquo; و laquo;الهجرةraquo;. فما حصل في السنوات القليلة الماضية هو دخول عناصر جديدة الى تشكيلة الرموز الاجتماعية. صار للشيوخ دور اكبر في تحديد اتجاهات السلوك اليومي. مثلاً عبارة laquo;الشهيدraquo; كانت سائدة ورائجة في المخيم، اما اليوم فمن الممكن ملاحظة تغير في العبارة في بعض مناطق المخيم، فصارت laquo;الشهيد إن شاء اللهraquo;. المواقع الإلكترونية التابعة لتنظيم laquo;قاعدة الجهاد في بلاد الرافدينraquo; التي تبث بيانات تنعى مَن تسميهم laquo;أُسود الشام في بلاد الرافدينraquo; تساهم الى حدٍ كبير في تعديل منظومة الرموز اليومية في عين الحلوة. فيظهر بيان نعي عماد الحايك مثلاً على هذا النحو: laquo;الشهيد عماد الحايك (أبو بكر). من بلاد الشام مخيم عين الحلوة. استشهد في عملية على المرتدين في كربلاء. رحمك الله يا أبو بكر وأسكنك فسيح جناتهraquo;.

لا ينعى سكان المخيم شهداءهم عادة على هذا النحو، ولا يزعمون كجماعة الزرقاوي ان اهل كربلاء من laquo;المرتدينraquo;، لكنه laquo;وعيraquo; جديد بدأ يتسرب الى المخيم من العراق نواته الأولى عائلات laquo;شهداء العراقraquo;، ويملك مقومات التوسع. فلطالما ارتبطت مثلاً صورة المخيم بمشهد امرأة مفجوعة على ابنها الذي سقط في مواجهة ما مع الإسرائيليين. اما اليوم فيروي شاب فلسطيني زار عائلات قتل أبناؤها في العراق، ان ثمة من يطلب من العائلات عدم اظهار الحزن، ومن الأمهات ان laquo;يشكرن الله على تحقيقه أمنيات أبنائهن بالشهادةraquo;. ومن أولى إشارات قدرة هذا laquo;الوعيraquo; الجديد على النفاذ عدم إخضاع laquo;شهادةraquo; هؤلاء الشبان في العراق الى اي مساءلة او تشكيك. انهم laquo;شهداءraquo; او هم laquo;شهداء إن شاء اللهraquo;. ولا تقتصر هذه القناعة على أهلهم، وإنما يتحدث بها الجميع. محمد خليفة من أبناء المخيم، نفذ عملية انتحارية في منطقة القائم، لا يكترث أحد في المخيم للذي استهدفته العملية، المهم انه سقط laquo;شهيداًraquo;.

حين يتحدث سكان من المخيم عن الذاهبين منهم الى العراق يشيرون الى ان معظم هؤلاء من فقراء المخيم، علماً ان غير الفقراء فيه عددهم قليل جداً. بعضهم من باعة القهوة المتجولين، وآخرون يملكون زوايا صغيرة يبيعون فيها الفول. فنضال حسن المصطفى، وهو من فوج laquo;الشهداءraquo; الأخير في العراق، من أبناء المخيم، كان يعمل بائعاً للفلافل في منطقة التعمير التحتاني، في ذلك الحزام الرقيق والغامض الذي يفصل المخيم عن نقطة الجيش اللبناني. نضال كان مطلوباً لدى الأجهزة الأمنية اللبنانية، وعلى رغم ذلك تمكن من laquo;التسربraquo; الى العراق. ويؤكد جاره انه باع متجره الصغير ليتمكن من توفير كلفة الرحلة، علماً ان الشاب عضو في جماعة laquo;عصبة الأنصارraquo;.

ثمة ما تمكن ملاحظته في سياق الكلام على ظروف الناشطين الأصوليين في مخيم عين الحلوة. فأعضاء تلك التنظيمات الصغيرة، التي يجهل كثيرون من السكان قدراتها ومدى انتشارها، نظراً الى طبيعة نشاطاتها laquo;السريةraquo;، مختلفون عن الناشطين في التنظيمات الفلسطينية التقليدية. فالانتماء الى حركة laquo;فتحraquo; مثلاً هو مهنة في حد ذاتها. الناشط في laquo;فتحraquo; يكون هذا عمله تقريباً، او انه يربط عمله بصفته هذه، فيتردد في أوقات كثيرة الى مراكز laquo;فتحraquo;، ويقول انه يعمل في laquo;الثورةraquo;، وغالباً ما يصحو متأخراً. اما الناشط العادي في laquo;عصبة الأنصارraquo; فغالباً ما يكون بائع قهوة متجولاً، او صاحب دكان صغير مثابراً على دكانه. ويرجح كثيرون من أبناء عين الحلوة ان لهذه المهن المتواضعة أهدافاً تتعدى تأمين لقمة العيش. ويشيرون أيضاً الى دائرة تعامل داخلية مقفلة، فالتاجر منهم مثلاً يعتمد على زبائن من بينهم بالدرجة الأولى، ويعمل لديه laquo;أخraquo; في الجماعة، وكذلك الحرفي وبائع الفلافل والفول، مع الإشارة الى تمتع هؤلاء الأصوليين بسمعة جيدة في مهنهم وعلاقاتهم. أسامة الشهابي مثلاً، كان عضواً مؤسساً في تنظيم laquo;جند الشامraquo; وانشق عنه وفتح محلاً لبيع الفول. علماً ان الشهابي ورد اسمه في لائحة اتهام أصدرتها محكمة أردنية أفادت أنه ضمن شبكة كانت تخطط لاستهداف مصالح أميركية في الأردن، وانه شكل مع مجموعة من الأردنيين جماعة إرهابية أطلقت على نفسها اسم laquo;سرايا خطابraquo;.

لا يقوى كثيرون من سكان مخيم عين الحلوة على تقدير حجم انتشار جماعة laquo;عصبة الأنصارraquo; في المخيم، خلافاً لقدرتهم الدقيقة على تحديد حجم انتشار القوى الأخرى. ففي النهار يتحول ناشطو laquo;العصبةraquo; سكاناً عاديين من الممكن تمييز بعضهم من اللحية او اللباس الشرعي. ولكن في الليل، في الأوقات التي تستنفر فيها laquo;العصبةraquo; في حي الطوارئ والأحياء المحاذية له، يظهر عدد مسلحيها الملثمين اكبر بكثير من العدد المتوقع. ويقول أحد ابناء المخيم ان تقدير أعدادهم من خلال اللحى والملابس غير مجدٍ، فأعداد هؤلاء لا تتعدى عشرات، لكنهم في الليل مئات من الملثمين.

ما زال قائد laquo;العصبةraquo; احمد عبدالكريم السعدي laquo;أبو محجنraquo; متوارياً. الحسم بوجوده في المخيم تضعضع، فمن كانوا يقولون انهم صادفوه ليلاً يعبر الى منزل أو مسجد لم يروه منذ سنوات. مسؤول في المخيم أكد انه ما زال موجوداً، لكنه ضاعف تخفيه. آخرون قالوا انه ذهب بدوره الى العراق، مشيرين الى سهولة هذا الاحتمال نظراً الى السهولة التي ذهب بها عشرات من المطلوبين الأعضاء في العصبة الى العراق، متخطين حواجز الجيش اللبناني عند حدود المخيم ومعظم الحدود الأخرى.

أما اليوم فلـ laquo;العصبةraquo; قيادة ثلاثية علنية هي أبو شريف (وفيق عقل) وأبو عبيدة وأبو طارق (شقيق أبو محجن). ولها ممثل في اللجنة الأمنية في المخيم، اي تلك المنبثقة عن لقاء القوى والفصائل الفلسطينية.

ويرى أحد أعضاء اللجنة ان دخول laquo;العصبةraquo; اليها يشكل إنجازاً أمنياً كبيراً، إذ أخضعت هذه الجماعة في نهاية الأمر الى قرارات تلتقي حولها الفصائل الفلسطينية في المخيم، وتتولى هذه اللجنة التنسيق مع القوى الأمنية اللبنانية. وأدى هذا التنسيق وانخراط laquo;العصبةraquo; فيه ذات يوم الى تسليم بديع حمادة الذي التجأ اليها بعد ان قتل عناصر من الجيش اللبناني. وربما كان من نتائج تمثيل laquo;العصبةraquo; في اللجنة الأمنية عدم إقدامها على تبني laquo;شهداء العراقraquo; من عناصرها لعدم laquo;إحراجraquo; الفصائل الفلسطينية، في مقابل تبني المخيم كله هؤلاء laquo;الشهداءraquo;. فنزع انتمائهم الى laquo;العصبةraquo; او اضماره يعيدهم laquo;شهداءraquo; أهلهم وأحيائهم الصغيرة في المخيم، ويضاعف القدرة على تسريب ثقافة أو أذواق أو لهجات laquo;المهاجر الجهاديةraquo; الى مجتمعات النزوح الفلسطيني. فمتلقو هذه التسريبات في الحـــالة هذه، ليسوا جــماعة مقــفلة وانـــما اهـــل واقـــارب ومجتمع.

ليس تنظيم laquo;جند الشامraquo; اكثر من انشقاق صغير وهش عن laquo;عصبة الأنصارraquo;. ربما كان اقل فلسطينية منها وأكثر راديكالية نظراً الى انعدام صلته الاجتماعية بالمخيم، اذ إن لـ laquo;العصبةraquo; ملامح محلية تتمثل في غلبة أهالي طيطبا والصفصاف وصفوري عليها. وهذه أسماء لأحياء في المخيم ولبلدات في الجليل الأعلى. في المقابل يبدو ان معظم الذاهبين الى العراق من عناصرها، لا ينتمي الى هذا المتن المحلي والجغرافي في المخيم. كثيرون منهم يعيشون في منطقة التعمير التحتاني، وآخرون انتقلوا من laquo;العصبةraquo; الى laquo;جند الشامraquo;، وبعض منهم لبناني الجنسية.

ربما كان لعدم الانسجام الاجتماعي على ضفاف المخيم، وفي تلك الرقعة الضيقة، وظيفة ما في قرار الذهاب الى العراق. لكن للانسجام الاجتماعي في عمق المخيم وفي متنه، وظيفة أخرى لا تقل حماسة لـ laquo;عصبة الأنصارraquo; وللعراق. انه ذلك الركود العصي على الاهتزاز. فالمخيم على حاله منذ عقود، ويشعر زائره المنقطع عنه منذ سنوات انه في عين الحلوة اكثر من اي وقت مضى. الأحياء والعشائر والقرى ما زالت في أماكنها لم تتزحزح، الوجوه هي نفسها مضاف اليها مزيد من الفقر والشيخوخة، وأعضاء اللجان الشعبية الذين يمثلون التنظيمات ما زالوا هم أنفسهم، ولم تقم أحزابهم بتبديلهم او ترقيتهم. laquo;الأونرواraquo; ما زالت تقدم الخدمات ذاتها بل تناقصت تقديماتها. ذلك الشاب الذي كان قبل سنوات فتى ناجحاً في مدرسته، جلس اليوم أمام دكان جاره منتظراً فرصة للهجرة الى كندا قد يبدلها لاحقاً بهجرة الى العراق.

ها هو المخيم اكثر من اي وقت مضى. تضاعف الشعارات لا يبدله وإنما يكثفه، وكذلك التقدم في الزمن والعمر. امر واحد فقط يمكن رصده في سياق رصد ما طرأ عليه، هو ذلك التسرب الهادئ والمتين لثقافة laquo;المهاجر الجهاديةraquo;.