الجمعة:27. 01. 2006
د. أسعد عبد الرحمن
يقول المؤرخ الإسرائيلي بني موريس (الذي ''بدل جلد'' مواقفه أكثر من مرة) في مقابلته الشهيرة مع الصحفي ''آري شاريت'' المنشورة في صحيفة هآرتس 9/1/2004: ''إن كانت نهاية القصة ستكون سيئة من وجهة النظر اليهودية، فإن سبب ذلك يعود إلى أن بن غوريون لم يكمل الترانسفير عام 1948 لأنه أبقى مخزونا ديموغرافيا كبيرا ومتفجرا في الضفة وغزة وداخل إسرائيل نفسهاmiddot; إن عرب إسرائيل هم قنبلة موقوتةmiddot;middot;middot;''middot; هذا الكلام الخطير، يؤشر إلى ما يخطط إسرائيليا ضد الفلسطينيين الذين تمكنوا من البقاء على أراضيهم المحتلة في عام middot;1948 إن الذي يجعل الجليل بهويته العربية كابوسا يؤرق الدولة العبرية هو نجاح هذه الأقلية في الحفاظ على طابعها العربي المتميز على مدار ستين عاما تقريباmiddot; والأخطر من ذلك، فإن هذه المشكلة مرشحة للتفاقم إسرائيليا إذا علمنا أن نسبة زيادة السكان في إسرائيل لا تتجاوز (1,4%) بينما تصل إلى (3,4%) لفلسطينيي 48 حسب التقرير السنوي الصادر عن دائرة الإحصاء المركزيةmiddot; وقد أجبر هذا الوضع المعقد الوزير الإسرائيلي السابق أفيغدور ليبرمان زعيم حزب ''إسرائيل بيتنا'' في مؤتمر هرتسيليا الخامس على طرح مشروعه الخاص للحل الدائم والنهائي مع الفلسطينيين والذي في صلبه استبدال الانسحاب الكامل من المناطق المحتلة منذ عام 1967 بتبادل أراض على أساس تبادل سكانيmiddot; فهو يريد ضم منطقة المثلث إلى الضفة الغربية مقابل الاحتفاظ بكامل المستعمرات/ ''المستوطنات'' في الضفة الغربيةmiddot;
وعلى الرغم من الجوانب العنصرية والخطيرة الكامنة في مشروع ليبرمان، إلا أن فيه اعترافا من أشد فئات اليمين الصهيوني عنصرية وتطرفا في إسرائيل بضرورة التخلي عن مبدأ أرض إسرائيل الكاملة وأنه لابد في النهاية من قيام دولتين بين النهر والبحرmiddot; وبطبيعة الحال، لم يغير ليبرمان العنصري جلده إطلاقا ولكنه بات يخاف على ''يهودية دولته'' وأصبح على يقين أن مشروع الطرد الجماعي (الترانسفير الذي هدد به لسنوات طويلة) غير قابل للتنفيذ في ظل الظروف الراهنةmiddot; ولأن الكثيرين في إسرائيل يعلمون أن ''الترانسفير'' حل غير عملي وغير ممكن، لذا فإن الحل ''الأمثل'' لهذه المعضلة الديموغرافية هو المضي في تهويد منطقة الجليل بخطى متسارعةmiddot;
ومنذ اليوم الأول لقيام دولة إسرائيل، تقرر إقامة تجمعات يهودية بكثافة في الجليل وبخاصة على أنقاض القرى الفلسطينية المدمرة بغية سد الطريق أمام عودة اللاجئين الذين طردوا من ديارهمmiddot; ولأسباب أمنية، تقرر إقامة تجمعات يهودية حدودية إضافة إلى طمس هوية البلاد وتهويدها على الصعيد الرسميmiddot; ويذكر أن إسرائيل صادرت حوالى مليون دونم من أصحابها في العقد الأول لقيامها فقطmiddot; وقبل حوالى العام، كشفت إسرائيل عن خطة لاستقدام (300) ألف مستعمر/ ''مستوطن'' يهودي لاستكمال تهويد الجليلmiddot; فقد أعلنت ''الوكالة اليهودية'' أنه خلال السنوات القليلة المقبلة (أي حتى عام 2010) ستقوم إسرائيل باستقدام (300) ألف ''مستوطن'' يهودي من جميع بقاع العالم لتوطينهم ضمن خطة حكومية لتهويد النقب والجليلmiddot; وقالت ''الوكالة'' إن الأراضي التي تمتلكها في الجليل ستباع للقادمين الجدد بأسعار رخيصة للغاية، وذلك في سعي منها لاستقطاب أكبر عدد من اليهود للقدوم والسكن هناك بهدف قلب الميزان الديموغرافي لصالح اليهودmiddot; وهذه أكبر عملية استعمارية تقوم بها ''الوكالة'' منذ قيام الدولة العبريةmiddot; وقد باشرت الحكومة الإسرائيلية بمشروعها فعلا من خلال تنفيذ مخططها الاستعماري الذي أطلقت عليه ''تطوير الجليل'' الهادف أساسا إلى تهويد ما تبقى من الأرض العربية في هذه المنطقة التي يسكنها أكثر من 60% من فلسطينيي middot;48 وتشمل الخطة مشاريع استثمارية واقتصادية تضمن توفير آلاف الوظائف لليهود الذين سينتقلون للسكن في الجليلmiddot; وقد قامت الحكومة بعرض هبات ومغريات كثيرة لجذب السكان من جهة، والمستثمرين من جهــــــــة أخـــــرى بعـــــــد أن خفضــــت أسعــــــار الأراضي بنسب كبيرة، وأعلنت عن قروض سكنية ومغريات أخرىmiddot;
حين أطلق المسؤولون الإسرائيليون على المشروع الذي سيتكلف عند الانتهاء منه حوالى (17) مليار شيكل اسم ''مشروع تطوير الجليل''، هدفوا إلى عدم استعمال كلمة ''تهويد''middot; إلا أن الحقيقة هي أن المشروع تهويدي بامتياز، لأن المخطط يؤكد على منح هبات لـ(104) مجمعات سكانية يهودية في الجليل دون أي مجمع سكاني عربي واحدmiddot; وبالإضافة إلى ذلك، فإن شركاء الحكومة في تنفيذ المخطط هما الإطاران: الوكالة اليهودية ومديرية أراضي إسرائيلmiddot; وقد عكس بيان الوكالة اليهودية حقيقة أن في المشروع تهويد الجليل بتقوية الاستعمار/ ''الاستيطان'' اليهودي في تلك المنطقةmiddot; وبالإضافة إلى هاتين المؤسستين فقد تبرع العديد من يهود أميركا للمخطط، وهؤلاء لهم شروطهم وفي صلبها تهويد الجليلmiddot; والتخطيط المقترح يدعو السكان إلى الانتقال من المركز (حيث الكثافة اليهودية العالية) إلى الجليل حيث الكثافة اليهودية المنخفضة (علما بأن ذلك هو عكس حالة العرب الفلسطينيين في الحالتين) الأمر الذي يؤكد الهدف الحقيقي للعملية برمتهاmiddot; ولقد بات واضحا أن المخطط المذكور خطير جدا بكل المقاييسmiddot; فهو مشروع تهويدي لأهم منطقة بالنسبة للفلسطينيين للعرب الذين يشكلون ما نسبته (51%) من العرب في كل فلسطين الـmiddot;1948 وواضح أيضا أن المعنى الأساسي لهذا المخطط هو تأكيد يهودية الدولة تحت شعار ''أراض كثيرة مع عرب قليلين''middot;
وفـي هــذا السياق، يتأكـد يومــا بعـــد يــوم أن إسرائيل تتعامل مع الأقلية العربية فيها بصفتهم ''مشكلة ديموغرافية'' يجب معالجتهاmiddot; ويلتقي هذا المفهوم العنصري مع مخططات التبادل السكاني لليبرمان وإن كان بطريقة أقل فظاظة وغير مباشرة، ولكن الهدف في النهاية هو واحدmiddot; وعليه، فإن نجاح هذا المخطط معناه تغيير التوازن الديموغرافي في منطـــقة الجليل علــى نحــو لا رجعة فيه أو -على الأقل- لسنوات طويلة قادمةmiddot; كما أن التركيز علـــــى طابع ''يهودية الدولة'' يلغــــي حق الأقلية العربية في المساواة تطبيقا لديمقراطية الدولة حيث إن المساواة تعني تعطيل كل القوانين والقرارات العسكريــــة، وهـــو الأمــــر الذي -لو تم- سيشـــرع لاحقا على ضوء التحولات الديموغرافية ويــــؤدي إلــــى ''دولة ثنائية القومية'' علمانيـــة لجميــــع مواطنيهــــاmiddot; ومثل هذا التطور سيعنــــي، في النهاية، إمـــا تخلي إسرائيل عن العقلية العنصريــــة الصهيونية، أو تحولها إلى مجتمع غير ديمقراطي عنصري علـــى غـــرار دولـــة جنوب أفريقـــيا التي نعلم جميعا كيــف انتهــتmiddot; ومــن أجـــل منـــع مثــــل هـــــذا التطـــــور، يجــري مـــا يجـــــري مــن تهويد للجليل!
التعليقات