محمد السمَّاك

كانت الهند من أكثر الدول الآسيوية التزاماً بالقضايا العربية، أولاً أثناء فترة الرئيس جواهر لال نهرو، ثم أثناء فترة كريمته أنديرا غاندي، وبعد ذلك ابنها راجيف غاندي. وكان حزب المؤتمر ـ الكونغرس ـ من أقوى وأهم الأحزاب السياسية الآسيوية المتعاطفة مع القضية الفلسطينية.
بعد ذبول حركة عدم الانحياز وتآكل دورها، انتكست وتراجعت العلاقات العربية ـ الهندية حتى كادت الصداقة تنقلب دون مبرر إلى بغضاء وعداوة. كثيرة هي الأسباب التي أدت إلى هذا التراجع. لعل أهمها سوء تقدير العالم العربي لدور الهند في عالم الانحياز وخاصة في عالم القطب الواحد الممثل في الولايات المتحدة.
فالهند التي يزيد عدد سكانها على المليار انسان، والتي تملك ترسانة نووية وصاروخية متقدمة، حققت قفزات كبيرة في عالم الالكترونيات، حتى ان هناك أكثر من مليون هندي يعملون الآن في المصانع الالكترونية في الولايات المتحدة نفسها، ورغم أن المسلمين الهنود يشكلون أقلية نسبية (إلا أن عددهم الذي يزيد على 150 مليوناً يساوي نصف عدد المسلمين العرب مجتمعين)، فإن رئيس الدولة الدكتور عبد الكلام هو هندي مسلم، بل انه يعتبر عن جدارة أب القنبلة النووية الهندية، ورغم أن المسيحيين يشكلون كذلك أقلية أصغر من الأقلية الاسلامية، إلا أن رئيسة الحزب الحاكم السيدة سونيا غاندي (إيطالية الأصل) هي مسيحية كاثوليكية. أما رئاسة الحكومة فيتولاها هندوسي هو مانموهان سنغ. لم يكن هذا التوزيع للمناصب السياسية بين الهندوس والمسلمين والمسيحيين توافقياً، ولا هو تقليد دستوري على الطريقة اللبنانية، ولكنه تم بالاقتراع، علماً بأن 80 بالمئة من الهيئة الناخبة في الهند تتألف من الهندوس!!.
لقد غيّب الكثير من الوقائع والأسس التي كانت تشكل أساساً لعلاقات عربية هندية وطيدة على النحو الذي قام طوال ثلاثة عقود (من الخمسينات حتى السبعينات من القرن العشرين)، فتردّت هذه العلاقات بسبب هذا التغييب إلى الحد الذي دفع الهند إلى التعاون العسكري والسياسي مع اسرائيل، ودفع الدول العربية إلى الالتزام بالموقف الباكستاني من كشمير من دون أي تحفظ. ولكن التحولات الايجابية التي طرأت على العلاقات الهندية ـ الباكستانية اخيراً كشفت عن ضيق الأفق العربي وعن ترهل الديبلوماسية العربية. فكان لا بد من مبادرة لإنقاذ العلاقات العربية ـ الهندية من دون إلحاق أي إساءة بالعلاقات العربية ـ الباكستانية. من هنا أهمية زيارة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله إلى الهند. فهي ليست فقط أول زيارة يقوم بها عاهل سعودي إلى هذه الدولة القارة، ولكنها أول زيارة أيضاً يقوم بها مسؤول عربي على هذا المستوى الرفيع، فهل تفتح هذه الزيارة صفحة جديدة في العلاقات العربية ـ الهندية؟.
للإجابة على هذا السؤال لا بد من الإشارة إلى الأمرين التاليين:
الأمر الأول هو الموقع المميز الذي تحتله المملكة العربية السعودية، والاحترام الكبير الذي يتمتع به الملك عبدالله بن عبدالعزيز شخصياً في العالمين العربي والاسلامي.
أما الأمر الثاني فهو ان للمملكة علاقات تعاون تاريخية وحميمة جداً مع الباكستان. كما أن المملكة تستضيف جالية هندية كبيرة من العمال والموظفين ورجال الأعمال يبلغ عددها مليون ونصف المليون شخص. ومن خلال هذين الأمرين تستطيع المملكة أن تلعب دوراً بناء في دفع العلاقات الهندية ـ الباكستانية نحو المزيد من التفاهم والتعاون، الأمر الذي يؤسس لحل قضية كشمير سياسياً وودياً بعد أن جرَّت هذه القضية المعقدة الدولتين إلى الحرب مرتين، وكادت تجرهما إلى الحرب مرة ثالثة.
وعلى هذه القاعدة تستطيع المملكة أن تعيد العلاقات العربية، بل والاسلامية، مع الهند إلى ما كانت عليه من انفتاح واحترام وتعاون، وهو أمر طالما تطلعت إليه الهند وسعت إليه أيضاً.
إن زيارة الملك عبدالله إلى الهند تعيد إلى الأذهان، ما قام به الإمبراطور المغولي المسلم أكبر في عام 1590. في ذلك الوقت دعا في العاصمة أكرا (حيث يوجد تاج محل) إلى تنظيم جلسات حوار ودي مفتوحة بين ممثلي الأديان كلها: المسلمين والهندوس والمسيحيين والبوذيين وسواهم، وذلك بهدف التفاهم والتعاون على قاعدة quot;لكم دينكم ولي دينquot;، وقد وضع بذلك القواعد والأسس لإقامة مجتمع متعدد الأديان والعقائد في الهند، في وقت، أي قبل 461 عاماً، كانت محاكم التفتيش في اسبانيا تنكل بالمسلمين وباليهود، وتضطهدهم وتمارس بحقهم أبشع أنواع التعذيب والقتل.
فهل يعيد الملك عبدالله العصر الذهبي للعلاقات العربية والاسلامية مع الهند؟ إن ما يوحي بجواب إيجابي على هذا السؤال، مبادرة الرئيس الهندي إلى خرق البروتوكول المعتمد في الهند باستقبال العاهل السعودي في المطار، واستعداد المملكة لعقد اتفاقات شراكة مع الهند بحيث ترتفع المبادلات النفطية من مستوى البائع والشاري إلى مستوى الشريك المستثمر، علماً بأن حجم التبادل التجاري بين البلدين بلغ في العام الماضي 2004 نحو 9 مليارات دولار.
لقد كانت الهند رصيداً كبيراً للعالم العربي، كما كان العالم العربي رصيداً كبيراً للهند، والمهم الآن تجديد الصدقية بهذا الرصيد بما يعيد للعلاقات العربية ـ الهندية حضورها ودورها في آسيا وفي العالم.