الثلاثاء: 2006.11.28

د. محمد عابد الجابري

في المحاضرة المثيرة التي ألقاها الباب بينديكت السادس عشر، وتعرض خلالها لمكانة العقل في الإسلام، جاء قوله: quot;وفي هذا الإطار يستشهد خوري بالمستشرق ر. أرلنديز R. Arnaldez الذي ذكر أن ابن حزم قد بالغ في هذا الأمر، إلى درجة أنه يصرح أن الله ليس ملزماً بتنفيذ ما يعد به (العبارة الإسلامية: لا يجب عليه تنفيذ وعده ووعيده كما سنبيِّن)، وأنه لا شيء يلزمه على التصريح لنا بحقيقة ما يريد (بالعبارة الإسلامية: quot;يقدر على الكذبquot;). فإذا أراد لنا الله أن نعظم الأصنام، فليس لنا إلا أن نخضع لإرادته (وهذا الذي ينسبه هنا لابن حزم خطأ، كما سيتضح لاحقاً).

في القرآن آيات يفيد ظاهرها معنى وأخرى يفيد ظاهرها معنى مختلفاً، وفي أحيان مناقضاً. وقد ارتأى كثير من المتكلمين أن تجاوز هذا المشكل يكون برد المتشابه من الآيات إلى المحكم. لكن قد يحدث أن تتدخل ميول الفرقاء، فما يعتبره فريق محكماً يعتبره فريق آخر متشابهاً. من ذلك مثلاً أن المعتزلة يعتبرون قوله تعالى quot;ليس كمثله شيءquot; (الشورى 11) محكماً، وما يتناقض معه عدُّوه من المتشابه. ولذلك قالوا بالتنزيه المطلق للذات الإلهية فنفوا عنه تعالى جميع الصفات التي فيها تشبيه بالإنسان؛ سواء المعنوية منها كالعلم والإرادة أو الحسية منها كالسمع والبصر... الخ، وقالوا مثلاً هو عالم بذاته لا بصفة زائدة عليها أو هو عالم بعلم وعلمه ذاته. وفي إطار هذا التنزيه المطلق قالوا إن الله تعالى منزه عن جميع أشكال النقص. وبما أن فعل القبيح (كالظلم والكذب.. الخ) نقص، فالله منزه عنه، وبالتالي لا يفعل إلا الحسن والصلاح وجوباً، مستندين في ذلك إلى آيات من القرآن كثيرة، مثل قوله تعالى: quot;مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِquot; (فصلت 46)، وقوله: quot;وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداًquot; (الكهف 49)، وقوله: quot;اللهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِquot; (الأنفال51. تكررت هذه الآية عدة مرات)، وقوله: quot;كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ (الأنعام 12).. الخ، ومن هنا عبارتهم quot;يجب على الله فعل الصلاحquot;، وبعضهم قال: quot;الأصلحquot;.

وقد رد عليهم خصومهم من أهل السُّنة والأشاعرة والظاهرية، محتجين بآيات كثيرة يصف تعالى فيها نفسه: بأنه quot;عليمquot;، quot;حكيمquot;، quot;سميعquot;، quot;بصيرquot;، quot;متكلمquot;... الخ، وأنه quot;عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌquot;، وأنه quot;لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَquot; (الأنبياء 23).

والذين يعترضون على القول بأن الله قادر على quot;كل شيءquot;، يقولون إن ذلك يستتبع أن يكون قادراً على quot;الظلمquot; وquot;الكذبquot;. ويضيفون: إنه ما دام قادراً على quot;الظلمquot; وquot;الكذبquot;، فما الذي يضمن لنا أنه لم يفعلهما الآن، أو أنه لن يفعلهما في المستقبل؟

هذا اعتراض ذكره ابن حزم على لسان الخصم، ليرد عليه ويفنِّده، وليس هو رأيه كما في خطاب البابا. وفيما يلي نص كلامه: quot;قال ابن حزم: quot;فإن قال قائل: فما يُؤَمِّـنُـكم، إذْ هو تعالى قادر على الظلم والكذب والمحال، من أن يكون قد فعله أو لعله سيفعله فتبطل الحقائق كلها ولا تصح، ويكون كل ما أخبرَنا به كذباًquot;؟

يرد ابن حزم قائلاً: quot;وجوابنا في هذا هو أن الذي أَمَّنََنا من ذلك ضرورةُ المعرفة التي قد وضعها الله تعالى في نفوسنا، كمعرفتنا أن ثلاثة أكثر من اثنين، وأن المُميِّز مُميِّز، والأحمق أحمق، وأن النخل لا يحمل زيتوناً، وأن الحمير لا تحمل جمالاً، وأن البغال لا تتكلم في النحو والشعر والفلسفة، وسائر ما استقر في النفوس علمه ضرورةquot;.

ومما تجدر الإشارة إليه هنا أن قول ابن حزم بالضرورة العقلية التي ركبها الله فينا كضامن لليقين، هو عين العقلانية. فالعقل هو الذي يبرهن على وجود الله من خلال تأمل الموجودات وبالنظر في بديع نظامها، إذ يُستنتَج من ذلك أنه لابد أن يكون وراءه صانع حكيم، والعقل هو ضامن اليقين لأن اطراد نظام الكون واستقلاله عنا دليل على أن الله لا يخدعنا... فما يقوله البابا من أن quot;العقل لا يتنافى مع طبيعة اللهquot;، يعبر الفكر الإسلامي عنه بالقول: إن سنن الكون لا تتنافى مع قواعد التمييز التي ركبها الله في عقولنا، (وبعبارة ابن رشد: quot;ليس العقل شيئاً آخر غير إدراك الأسبابquot;)، وللقارئ أن يحكم بنفسه: أي القولين أكثر عقلانية؟

وأما ما نسبه البابا إلى ابن حزم على لسان المستشرق أرلنديز، ورواية عن خوري، فهو خطأ في الفهم أو النقل أو فيهما معاً. ذلك أن ابن حزم لم يقل ولا يمكن أن يقول: quot;إذا أراد لنا الله أن نعبد الأصنام، فليس لنا إلا أن نخضع لإرادتهquot;. ذلك أن الله يقول: quot;وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَquot; (آل عمران 80). أما ما ذكره ابن حزم فهو حكاية عن قوم قالوا للمعتزلة: إذا كان الله لا يفعل إلا الصلاح، كما تقولون وبالتالي لا يشاء الكفر لعباده، فكيف تردون على من قال إن الله صرح بأنه قد يشاء أن يعود الناس إلى الكفر، وذلك بدليل قوله تعالى: quot;قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا، قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ، قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْهَا، وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا، وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً...quot; (الأعراف 88-89). فقوله quot;إلا أن يشاء اللهquot;، يفهم منه المعترض أن الله يمكن أن يشاء رجوعهم إلى الكفر!

ولما ذكر ابن حزم ذلك جاء بجواب كان قد رد به بعض المعتزلة على ذلك الاعتراض، فقالوا لا يمكن أن يرد الله المسلمين إلى عبادة الأصنام: quot;إلا أن يأمرنا الله بتعظيم الأصنام كما أمرنا بتعظيم الحجر الأسود والكعبةrlm;quot;.rlm; وفي هذه الحالة لا يكون الله قد شاء لهم الرجوع إلى عبادة الأصنام والكفر، بل يكون قد شاء المساواة في التعظيم بين الحجر الأسود، وبين الأصنام. والتعظيم لا يعني العبادة، والمسلمون يعظمون الحجر الأسود لا بمعنى أنهم يعبدونه، بل يعظمونه لما فيه من معنى الرمز، إذ يعود بهم إلى نبي الله إبراهيم الذي وضعه في موضعه كنقطة البدء في الطواف.

ويعلق ابن حزم على ذلك بالقول إذا أمرنا الله بتعظيم الأصنام كما نعظِّم الحجر الأسود والكعبة، فليس معناه أنه أمرنا بالكفر وبالرجوع إلى عبادة العرب للأصنام، بل معناه أنه أمرنا بما به يزيد إيماننا، فلو أمر المسلمين بتعظيم الأصنام فإن ذلك لن يتناقض مع أمره لنا بتعظيم الحجر الأسود والكعبة، بل سيكون قد زاد في إيماننا بامتثالنا لأمره. يقول ابن حزم ذلك quot;أن الله لو أمرنا بذلك، لم يكن عوداً في ملة الكفر بل كان يكون ثباتاً على الإيمان وتزايداً فيهquot;. فيكون الحال كما قال تعالىrlm;:rlm; rlm;quot;rlm;في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاًrlm;quot;rlm;، والمرض المقصود هنا هو الكفر، والمعنى أن الله شاء لهم الزيادة في الكفر كما شاء لهم الكفر. إن مشيئة الله عند ابن حزم سارية، سواء تعلق الأمر بإيمان من آمن أو كفر من كفر أو ارتداد من ارتدquot; (الفصل 2 ص 186 وما بعدها، مكتبة خياط بيروت د. ت).

وإذن، فالفرق كبير جداً، إلى درجة التعارض والتنافي، بين ما نسبه البابا إلى ابن حزم، وما قاله ابن حزم في حقيقة الأمر. ونحن نأخذ على البابا مثل هذه الأخطاء ليس لأنه تعمد الوقوع فيها للنيل من عقيدة الإسلام، فنحن لا نحاكم النوايا كما أسلفنا، وإنما نعجب لكونه يقتبس من مصادر غير موثقة ولا مختصة أشياء تسيء إلى علاقته وعلاقة الفاتيكان بالإسلام. في الوقت الذي ختم فيه محاضرته بالدعوة إلى حوار quot;عقلانيquot; بين الأديان!

أعتقد مخلصاً أنه قبل أن يكون هناك حوار بين الأديان، يجب أن يتعرف أصحاب كل دين على حقيقة دين محاوريهم. هذا علاوة على أن يعرف أصحاب كل دين دينهم، معرفة ترتفع إلى المستوى المطلوب. ذلك أن الحوار مع الجهل ينتهي حتماً إلى عداوة: وقديماً قيل quot;الإنسان عدو ما يجهلquot;.