الخميس: 2006.03.02

محمد عارف

يصادف هذا الشهر مرور نصف قرن على استقلال المملكة المغربية، وهي مناسبة ملائمة للتعرف على نساء العلم المغربيات. فالمغرب، بالنسبة لعالماته، كالقفطان المغربي التقليدي يحتضن أداءهن في علم السياسة، كما في علوم اللسانيات والكيمياء والفيزياء والبيولوجيا والهندسة والطب. وبالمغرب تصبح كل واحدة منهن quot;المرأة الخالدة التي ترفعنا إلى الأعلىquot;، حسب الشاعر الألماني غوته. يظهر ذلك في السيرة العلمية لفاطمة المصدّق، أستاذة علم السياسة في quot;كلية العلوم القانونية والاقتصاديةquot; بجامعة فاس. ففي مؤلفاتها المكرسة بالكامل تقريباً لمواضيع محلية تسعى السياسة إلى تحقيق حلمها بأن تصبح علماً. وعلى خلاف توجه معظم الأكاديميين العرب لدرس نظم السياسة والقوانين الدستورية في الغرب، تجعل فاطمة المصدّق المغرب مختبر أبحاثها، وتُرينا ما يخفى عن السياسيين المحليين، أو يخفونه عن أنفسهم وعنّا. ولعل هذا سر شعبية كتبها الأكاديمية المنشورة بالعربية والفرنسية والإنجليزية: quot;التراضي أم لعبة التراضي؟quot;، وquot;متاهات التناوبquot;، وquot;الإصلاح الدستوري والأوهام التوافقيةquot;. ويذهب كتابها الأخير quot;منعطف النزاهة الانتخابيةquot; إلى ما وراء تقرير quot;لجنة الإنصافquot; التي أحدثت هزة عربية ودولية بالكشف عن فظائع تعذيب المعتقلين السياسيين وعوائلهم على مدى نحو نصف قرن. وبالنسبة لها يرتبط الحديث حول إنجاز تقرير quot;لجنة الإنصافquot; بتقرير التنمية البشرية خلال 50 عاما من الاستقلال، وهي لا تُغفل الرأي القائل بأنه يتعذر طي صفحة الانتهاكات إلا بتقرير المسؤولية الجنائية والمدنية في مواجهة الدولة.
هنا لا تستسلم فاطمة المصدّق للأوهام التوافقية، بل تكدّ في استقراء النصوص التاريخية والمعاصرة، وتحصي حتى عدد الأسئلة التحريرية والشفاهية لأعضاء البرلمان، باحثة حسب تعبيرها quot;في العمقquot;، ليس عن النتائج فحسب، بل عن أسبابها.
وتعترف أستاذة علم السياسة المغربية أنها ما تزال تشعر على عتبة كل بحث علمي بالتهيّب والوجل. مشاعر لازمتها وهي تنتقل للدراسة من مسقط رأسها في مدينة القنيطرة إلى كلية الحقوق بالرباط، ثم إلى جامعة باريس، حيث أصبحت أول مغربية تنال دكتوراه الدولة في علم السياسة. ولم يفارقها quot;وجل القنيطرةquot; حتى بعد ممارستها التدريس في كلية الحقوق في تولوز بفرنسا، وشعرت بوطأته وهي تقف في مقتبل حياتها الأكاديمية في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي على العتبة ما بين السلطة العليا وأحزاب المعارضة لتعلن أطروحاتها حول العلاقة بين المشروعية التي يمثلها الملك، والشرعية التي يمثلها البرلمان. آنذاك رصدت دقائق الحياة السياسية اليومية لتكشف عن وجود ما تسميه quot;الدستور الصريحquot; وquot;الدستور الضمنيquot;، وquot;الدستور المُطالب بهquot;. وأظهرت أن quot;التصويت على الدستور قد يحقق الإجماع حوله، لكن تأسيس الإجماع على الدستور عملية جد معقدة، تتطلب من جهة تأسيس الممارسة السياسية على قاعدة سموّ الدستور ودعم استقلالية المؤسسات، وتتطلب من جهة أخرى تأسيس نزاهة الانتخاباتquot;. وفي كل هذا تتحمل المسؤولية أطراف المشروعية والشرعية على حد سواء. فالممارسات السياسية لم ترتق بعد، حسب رأيها إلى مرحلة تأسيس السلطة السياسية بالطريقة التي تجعلها متوافقة مع متطلبات الديمقراطية ودولة القانون. وقد تساعد أبحاثها على درس المعضلات السياسية لدول المشرق العربي، والكشف خصوصاً عن الحقائق الأساسية في عمق الكارثة العراقية، حيث انتهك تواطؤ قوى سياسية محلية وإقليمية ودولية، ليس مشروعية نظام الحكم فحسب، بل شرعية الدولة أيضاً.
ولا تبتعد عن المغرب نساء العلم المغربيات حتى في علوم الطبيعة والهندسة والتكنولوجيا، حيث يجمعن بين البحث العلمي والأداء الأكاديمي والمسؤوليات الإدارية والعمل الميداني. رقية مُصدّق (وهي ليست شقيقة فاطمة المصدّق) عميدة وأستاذة quot;معهد الفلاحة والطب البيطريquot; في quot;جامعة الحسن الثانيquot; بالرباط ، حصلت على الدبلوم العالي في الزراعة، والطب البيطري من الجامعة نفسها، والدبلوم العالي بالهندسة الزراعية من quot;المعهد الوطني للزراعةquot; في باريس بفرنسا، وعلى شهادة الدكتوراه في المحاصيل الزراعية من quot;جامعة كولورادوquot; بالولايات المتحدة الأميركية، وأشرفت على نحو 40 رسالة دكتوراه وماجستير، فيما هي تعمل في برامج وزارة الفلاحة المغربية لتدريب المزارعين المحليين على أصول استخدام الأسمدة، والزراعة الرشيدة، وزيادة الغلة، وتحسين الثروة الحيوانية الزراعية. ونشرت خلال ذلك 40 بحثاً بالفرنسية والإنجليزية في الأسمدة، والحبوب، والبيطرة، إضافة إلى بحوث اجتماعية عن أوضاع نساء المغرب المزارعات.
وأقامت زبيدة شروف، أستاذة الكيمياء في quot;كلية العلوم، جامعة محمد الخامسquot; بالرباط مختبرها في قلب الريف المغربي المتاخم للصحراء. موضوع أبحاثها شجرة مغربية أصيلة يطلق عليها اسم quot;أرغانquot; Argan, وبواسطتها أنشأت شبكة إنتاجية تعاونية من نساء القرى، وروّجت للمشروع في الندوات والمطبوعات العالمية، وجلبت له مساعدات من منظمات دعم المشاريع العلمية الدولية. وبعد نحو ثمانية قرون على تصنيف quot;أرغانquot; على يد إبن البيطار الذي يعدّ واحداَ من أشهر علماء العقاقير في التاريخ، استُخدمت الشجرة لتمكين نساء الريف المغربي، ودخل زيتها قائمة الطعام في أماكن عدة من العالم، وتحدثت عن قصة نجاحها quot;نيويورك تايمزquot; وغيرها من الصحف العالمية. وحققت نساء أول جمعيتين تعاونيتين لاستخراج زيت quot;أرغانquot; في قريتي تامنار وتيجي 100 ألف دولار في سنة واحدة.
ولا تقل إثارة عن ذلك قصص تولي كثير من نساء العلم في المملكة المغربية مسؤولية مواقع أكاديمية وبحثية ودبلوماسية ووزارية. السيدة نزهة الشقروني، وزيرة شؤون المغتربين، أستاذة في علم اللسانيات بجامعة العلوم الإنسانية في مكناس، وعضو مشارك في quot;المركز الوطني للبحث العلميquot; في فرنسا (CNRS). والسيدة نجمة طاي طاي غوزالي، وزيرة الدولة سابقاً في وزارة التعليم الوطني والشباب، دكتورة في علم الدلالات الأثنية من جامعة السوربون في باريس، ومشرفة على الأبحاث في جامعة شارل ديغول في مدينة ليل بفرنسا، وأستاذة في جامعة ابن زهير بأغادير. ولطيفة طريشة، وزيرة الدولة في وزارة التعليم العالي وتكوين الأطر والبحث العلمي، حاصلة على شهادة الدكتوراه في طب الأسنان، وأستاذة وعميدة كلية طب الأسنان سابقا. ورحمة بورقية، رئيسة quot;جامعة الحسن الثانيquot; بالمحمدية، دكتورة في القانون. وأمينة بنخدرة، المديرة العامة لـquot;المكتب الوطني للأبحاث والاستثمارات المعدنيةquot; دكتورة في هندسة العلوم التقنية والمعادن... وتتولى نساء العلم المغربيات عمادة 10 معاهد جامعية، بينهن فوزية بني عامر عميدة quot;كلية العلومquot; بأغادير، وناجية حجاج عميدة quot;كلية الطب والصيدلةquot; بالرباط، وأمل الوزاني الشهيدي عميدة quot;كلية طب الأسنانquot; في الدار البيضاء، وأمينة أوشار مديرة quot;المعهد الجامعي للبحث العلميquot; في quot;جامعة محمد الخامس بالسويسيquot;، والمهندسة فوزية أمنصار رئيسة quot;الوكالة الحضريةquot; المشرفة على التخطيط الأساسي لكبريات المدن المغربية في الدار البيضاء.
وإذا كانت القرارات العليا حددّت 35 مقعداً للنساء في البرلمان، فإن أساتذة ومدرسي الجامعات انتخبوا بالتصويت نزهة كديرة لرئاسة النقابة الوطنية للتعليم العالي. والقرارات الذاتية للأسر المغربية وفرت التعليم العالي في العام الدراسي 2004-2005 لأكثر من 133 ألف طالبة من المجموع العام لطلاب الجامعات البالغ 289 ألفا، وبواسطتها نالت 5736 فتاة فرص الدراسات العليا من المجموع العام البالغ 19026 فرصة.