الجمعة: 2006.06.02

ناصر الظاهري


عام 1989 كنت في بغداد.. تلك المدينة التي تتشبث بأطراف ملابسك، لتقول لك: لا تبرح المكان، مكانك القلب والبيت الوسيع، كنت أريد أن أطوف على الفنانين العراقيين، لأخذ لوحات من أعمالهم التشكيلية، فانبرى رجل يميل إلى القصر، أعرفه، له هيبة الشكل المسرحي، وتميزه حمالات البنطلون الدائمة، وشنب يكاد يقمّط شفتيه، عيناه تشبه عيني عبد الله أوجلان إلا قليلاً.
أخذني في سيارة صغيرة، ربما كانت حمراء، وتبدل لونها، أصغر ما يمكن أن تراه من السيارات في شوارع بغداد، وكأنه كان يريد التميز في كل شيء، كانتquot;لاداquot; أو إحدى بقايا سيارات ألمانيا الشرقية في آخر عهدها، كانت كأنها مفصلة له وحده، أما بقية العائلة فيمكن أن يأتوا راجلين أو في سيارات عامة.
ركبت وبشكل أدق انحشرت في صندوق الـquot;يوسف أفنديquot; وانتقلنا من quot;كاليريquot; لآخر، ومن quot;اوتيليهquot; فنان إلى آخر، كانوا كلهم يعرفون الرجل، ويحترمونه، لم تكن جولة شرائية لمقتنيات فنية، كانت جولة فنية حقيقية بين مدارس ورؤى فلسفية وثقافية، استمتعت بحديث الرجل، وبجو بغداد الفني، وبتلك الرحابة التي في الصدور.
كانت هناك مشكلة تواجهنا، كيف لنا حمل تلك اللوحات وخاصة الكبيرة، ذات الإطار الفني والقديم والذي وضعه الفنان، وأصر أن لا أغيره، لأنه جزء أساسي من اللوحة، كان الحيز المكاني ضئيل في تلك السيارة التي لا اعرف لها اسماً، مما اضطرني أن أضع اللوحات فوق سقف السيارة التي يمكن أن نطلق تجاوزاً على سقفها بأنه سقف، كان الهواء يلعب بالسيارة وباللوحات وبأعصابنا حتى وصلنا إلى فندق الرشيد أو المنصور، وأنزلت بضاعتي التي أعتبرها أغلى شيء عندي من خزينة رحلتي.
قلت له: آن لي الآن أن أمد رجلّي، ففهم التورية من تلك الجملة، رضاً بالمكاسب وفرحاً بالاقتناء، وذماً في ضيق سيارته وخفة وزنها، حتى أنني قلت له هذه يجب أن لا تمشي بالبنزين، لأنها تمشي بالبركة أصلاً، ثم أردفت بيقين معرفتي، قيمة أن يكون الإنسان طليق الرجلين، ليس هرباً بل تهرباً من الضيق، ضيق الأمكنة وضيق الأسقف، وضيق النفوس.
مع ذلك.. كان عوني كرومي في ذلك اليوم البغدادي، الباردة نسائمه، ينقلني من ضيق سيارته إلى أفق الأمكنة، ورحابة الاستقبال في بيوت الفنانين والرسامين العراقيين، في بيته الذي يشبه منصة مسرح اللامعقول، وزوجته المتشبعة بالعربية، وروح الشرق، وكاسات شاي عراقي quot;طوخquot; ساعة مغربية، برائحة حب الهال.
التقيته مرات هنا وهناك، لكن فجيعة أن يودعنا هكذا بغتة، مثل بطل من مسرح العبث، ناسياً أن يترك لنا تلك المساحة التي ننتظر فيها جودو أن يأتي أو لا يأتي، لأن ساعة الانتظار، ومسافة الحلم، هما اللتان تجعلان من الحياة قاب قوس قزح أو أجمل.
غير أن عوني كرومي.. منذ إن سكن تلك المناطق الباردة، وأنا أخشى على صدره من نسمة هواء قاسية، تذكره بالأوطان وأوجاعها المرّة، منذ أن ترك بغداد، وأنا أخشى عليه، وعلى قلبه من مفارقة أشيائه الغالية.
ماذا يقتل الرجل؟ غير الهزائم.. وحدها يمكن أن تعلّق أحمال الحياة على الصدر، وحدها تجعل من الرأس كثقل ومشقة صخرة سيزيف، للصديق الراحل، باقة من ورد أكثر، كان حريّ أن يتلقاه في نهاية عرضه المسرحي.