هويدا طه


برنامج زيارة خاصة علي قناة الجزيرة برنامج هادئ.. يختار عادة شخصيات عربية لها تجربة خاصة مميزة في مجالها، يزورها في موقعها لتحكي للمشاهدين عن تجربتها في الاشتباك مع الحياة والناس والسلطة والنوازع البشرية المختلفة، مقدم البرنامج سامي كليب يتمتع بأدب جم وهدوء غير مفتعل وطريقة مميزة في طرح أسئلة قصيرؤ وذكية، وهو ما يتيح للمشاهد فرصة الالتحام مع شخصية الحلقة (سواء بالرفض أو بالقبول لكل ما تقول)، فهو لا يقاطعها إلا نادرا بعكس برامج أخري.. تجد نفسك (تشعر بالراحة) عندها تتحول عنها وعن صداع وذاتية مقدميها.. الذين لا يتحكمون برغبتهم الدائمة في الاستيلاء علي الوقت لأنفسهم، حلقة زيارة خاصة هذا الأسبوع كانت مميزة.. كانت الزيارة للدكتورة نوال السعداوي، وهي تلك الطبيبة الناشطة المتمردة التي تريد كسر الحدود.. رغم تخطيها السبعين من العمر، حتي أن أحد كتبها التي تزيد عن أربعين كتابا يحمل كسر الحدود عنوانا لمحتواه، تلك (الحدود) هي التي لم يكن وقت البرنامج كافيا لذكرها كلها.. الحدود التي تجعل النساء العربيات مكبلات بثقافة متخلفة.. تريد من المرأة كل شيء وتخشي منها ـ في نفس الوقت ـ بشكل هستيري عجيب! ثقافة يختصرها المثل الشامي (نفسي فيه واتفو عليه)! (هم) يخافون منها ويدعون الخوف عليها.. فتكون النتيجة أنهم يجعلون من فرض الوصاية عليها ضرورة بديهية، (هم) ليسوا فقط الرجال كما يظن البعض.. (هم) هذه تشمل رجالا في المجتمعات العربية يتملكهم التناقض والزيف في نظرتهم للأنثي.. تلك النظرة التي لا تقر بإنسانيتها، وتشمل أيضا نساء في تلك المجتمعات يقبلن ويستسلمن لثقافة تجعل منها شيئا قابلا للاستعمال، الدكتورة نوال متمردة أصيلة علي هذا التناقض في ثقافتنا تجاه الأنثي.. تصدت للسلطة وتصدت للقهر وتصدت للخرافة وتصدت للظلم.. وهي أيضا لم تقع فريسة الانبهار بوضع المرأة (الأخري) غير العربية.. فقد لمست كذلك ما تعانيه المرأة الغربية رغم مكتسباتها.. تماما كما لمست معاناة المرأة العربية من التكاتف غير الشريف بين السلطة والدين والثقافة لقهر إنسانيتها، غضب منها أساتذة في جامعة بمدينة نيويورك ـ كانت تدرس فيها كأستاذ زائر ـ عندما انتقدت تسليع المرأة الغربية وتعرية جسدها بهدف الربح.. وغضب منها كذلك أشاوس وأساطين الثقافة العربية ـ الإسلاموية لانتقادها هوسهم بتغطية المرأة العربية ـ وهي التي بحوزتهم ـ من رأسها إلي أطراف أصابع قدميها، قالت لمقدم البرنامج: أنا ضد الحجاب وضد العري ، تتابع طبيبتنا المتمردة وهي تروي قصص اشتباكاتها الكثيرة مع ثقافة قهر المرأة داخل البيت وخارجه.. وتجد نفسك أمام تساؤل.. من أين جاءت هذه المرأة بكل تلك القوة الممتدة منذ طفولتها وحتي ما بعد السبعين من العمر؟ هل هو الوعي وحده أم الوعي يدعمه (الاستغناء)؟ هل يكفي (وعي) المرأة بأنها مقهورة.. وعينا بأننا مقهورون.. أم نحن بحاجة كذلك إلي الاستغناء عمن يساوم علي الاستقلال بلقمة العيش.. حتي نتمكن من كسر الحدود ؟ من بالضبط الذي يساومنا؟ هل هم أشخاص معينون أم ثقافة متهالكة أم دولة راكدة أم كتل متراصة من قوانين القرون ما قبل الوسطي أم .. أم بقايا همس الجواري بداخلنا؟ أين نحن يا تري من تلك المعادلة؟ حتي تلك الطبيبة المتمردة ورغم ما عاشته من اشتباكات جراء تمردها.. لا يرضيها ما كسرته من حدود، قالت في نهاية الحلقة: نفسي أكسر حاجات كتير فتخلي مقدم البرنامج عن أسئلته بالعربية الفصحي وقال لها بلهجته الشامية المحببة وهو مندهش: لسه عندك شي بعد ما كسرتيه؟ أجابته.. هو أنا كسرت حاجة.. لسه.. لسه عايزة أكسر حدود كتير .. ليتنا يا دكتورة نتمكن من كسر بعض أغلالنا مثلما فعلت.. لكنك كنت أسعد حظا.. أمسكت بالمعول في لحظة تاريخية.. كانت مجتمعاتنا فيها رغم عنادها معك.. أكثر استعدادا لتقبل تكسير حدودها، إذ كانت تعيش طفرة الحلم الغامض بالنهضة والتحرر.. تلك الطفرة التي رجعت عنها سريعا.. معلنة ندمها علي أضغاث أحلام التحرر والنهضة وكسر الحدود.. فولدنا نحن مكبلين.. لتنتظرنا في أواسط العمر ثقافة.. تفخر بأنها تعيش.. عز زمن الحجاب!

الخروج من جلباب أمي

وبمناسبة الحديث عن د. نوال السعداوي بصفتها (متمردة أصيلة).. فإن امرأة أخري يمكن التطرق إليها حول مسألة (أصالة التمرد).. ففي أحد حلقات برنامج العاشرة مساء كانت د.مني حلمي بين الضيوف.. للحديث عن مبادرتها بتغيير اسمها إلي (مني نوال حلمي) في إعلان منها عن رغبة في تكريم الأم.. بإضافة اسمها إلي اسم أبنائها بجوار اسم الأب، بالطبع المحاولة ذاتها ـ علي غرابتها ـ تصب في دعوة محمودة لإثارة التفكير فيما يعتبر ثوابت ضمن منظومة قيمية ذكورية متكلسة في ثقافتنا، لكن.. بغض النظر عن مدي الحاجة الفعلية لطرح قضية اسم الأم ـ علي الأقل في اللحظة الحالية ـ فإن هناك أشياء تفوت الدكتورة مني علي أهميتها.. منها أنها لم تستطع أن تقنع الكثيرين أنها (خرجت من جلباب أمها) أو أنها مستقلة بما يكفي عن أمها.. الدكتورة نوال السعداوي، إذ أن نوال هي متمردة أصيلة وليست استنساخا من أحد.. هي مناضلة جريئة وشجاعة بإبداعها هي.. بينما تجد نفسك كلما قلت اسم مني حلمي.. لابد أن تلحقه بعبارة (بنت الدكتورة نوال) حتي يمكن للمستمع أن يكوّن انطباعا، لم تستطع مني حلمي ـ رغم مشروعية مطالبها وحتي تمردها ـ أن تفهم أهمية (الحوار في وسائل الإعلام) لدعم تيارها التقدمي الذي تنتمي إليه، كما فهمته الدكتورة نوال ـ الأم ـ التي تتحدث بثقة وهدوء وفهم واع لأسرار تأثير وسائل الإعلام، فقد كانت د. مني الابنة تثور كثيرا وتقاطع الآخرين كثيرا.. حتي أجهدت من شاهدها.. فضاق بها وبطريقتها في الحكي.. وحتي بجلستها التي لم تراع كثيرا أن النفور من المبشر بالأفكار.. ينفّر من الفكرة ذاتها!

حمي في الفضائيات العربية

تتنقل بين القنوات الفضائية المختلفة ليلا فإذا ببرنامج هنا وآخر هناك يناقش هموم البورصات العربية.. تفتح عينيك في الصباح فإذا بالأمر يتجاوز مجرد برامج تناقش أرقام البورصة إلي دفعات من قنوات بأكملها.. قنوات جديدة.. تتخصص في البورصة ولا شيء غير البورصة! أسهم خضراء وحمراء.. طالعة ونازلة.. وأرقام بكسور عشرية حاسمة.. تتعجب كيف تتحول تلك الكسور التافهة إلي ملايين في جيوب البعض وذبحات في قلوب البعض الآخر! تسمع العديد من وجهات النظر عن السهم القائد والسهم الظافر والسهم الحاسم.. تسمع العديد من الآراء عن التلاعب بالبورصة والمستثمرين الصغار والمستثمرين الكبار وغير ذلك من مصطلحات بورصوية عجيبة.. تسمع أناسا يتحدثون عن أسعار تلك الأسهم بينما هم أنفسهم كانوا حتي وقت قريب لا يظهرون اهتماما حتي باقتصاد منزلهم.. فما بالك بالبورصة وسوق الأوراق المالية! الكوافير.. البقال.. سائق التاكسي.. حتي بياعين الخضار! كيف أصبحنا فجأة (مستثمرين) ونحن حتي وقت قريب كنا نجمع من بعضنا قروشا معدودات.. كي نتكافل مع بعضنا البعض في الزواج وتسديد الديون الضئيلة وأقساط التليفزيون والثلاجة؟ الأمر يثير رغبة في معرفة أبعاد المسألة.. إيه حكاية البورصة دي؟ ما هو دور (الإغراء التليفزيوني) للبؤساء حول أحلام الثراء السهل السريع؟ وكيف انعكست عولمة رأس المال علي من لا مال أصلا لديهم؟ هذا باع ذهب زوجته وبناته.. وهذا باع التاكسي مصدر رزقه.. وذلك باع أرضه وهؤلاء اقترضوا من البنوك.. الجميع فقدوا توازنهم وفرطوا في الأصول التقليدية حتي يشتروا السهم القائد والسهم الظافر حتي النساء ربات البيوت خبر طريف في سلسلة برامج الأخبار الطريفة نقل أن رجلا سعوديا مزواجا لديه من الزوجات أربع.. قرر أن يتخلص من صداع عراك الضرائر فعلمهن بيع وشراء الأسهم.. وما هي إلا أشهر قليلة حتي تمتع بالهدوء.. بعد أن نقل طاقتهن إلي جبهة بعيدة عن أرضه. السؤال هو كيف نشأت البورصة عند من ابتكرها.. وكيف تفجرت في أرضنا؟ بالبحث والتحري في الأصول التاريخية لتلك الأسطورة الرهيبة.. تكتشف أنها أصلا نشأت كوسيلة (تعاونية) في عصر النهضة بين مجموعات من أفراد يملكون القليل فأرادوا (التشارك) لإنشاء الشركات والمصانع المنتجة.. كانت إذن وسيلة جيدة لإنشاء تعاونيات توزع (بطريقة ما) الثروة علي العديد من الأفراد بدلا من تركزها في يد فرد واحد.. يحتكر بأمواله الطائلة السوق والشركات والعمليات الإنتاجية.. أي أنها وسيلة (إنتاجية).. أو علي الأقل هكذا نشأت.. فأين العرب من هذه الروح (الإنتاجية) التعاونية؟ العرب الذين تشي أصولهم التاريخية بأنهم إلي جانب التجارة لم يعرفوا أوجها أخري للاقتصاد إلا (الميسر والريع)، هل رأيت أحد هؤلاء الذين يسمونهم المستثمرون الصغار يعرف حتي ماذا ينتج ويبيع سهمه الظافر الذي اشتراه؟ هؤلاء يتلاعب بهم من يسمون المستثمرون الكبار كي يأخذوا قروشهم القليلة التي باعوا مصادر رزقهم للدخول بها في (لعبة قمار) يا صابت يا خابت.. وطبعا هي دوما مع هؤلاء الصغار تخيب! مرة أخري.. لا تعرف هل تلوم أفرادا أم ثقافة؟ أم تلوم الفضائيات التي بدلا من أن تعرض نماذج (التعاونيات الإنتاجية) من تجارب الأمم الأخري.. نقلت ثقافة الهوس بالربح السريع.. لو أن الفضائيات اهتمت بتجربة (العدو الإسرائيلي) عن الكيبوتزات التعاونية التي أسسها لحظة اغتصب الأراضي العربية.. لأدركنا سبب تفوق إسرائيل الاقتصادي علينا، لكننا نهتم بهذا القمار الذي يمارسه العرب بالغريزة المشبعة برغبة في لعب الميسر.. لا برغبة في التشارك والتعاون والإنتاج أي إنتاج والأرض تباع من أجل القمار؟ أقول قولي هذا وأنا أعاني من هوس ٍ وصل إلي منزلي بتلك الشاشة المستطيلة وأسهمها الحمراء والخضراء، وأذكر صديقة خفيفة الظل عندما سألها أحد الأصدقاء عن معلوماتها عن البورصة قالت: كل اللي أعرفه عن البورصة إنها.. مرات البرص !


كاتبة من مصر
[email protected]