سمير عطا الله


عندما يموت أو يعدم، رجل مثل صدام حسين، أو ينتهي عهده نهاية طبيعية، تبدأ من بعده مرحلة جديدة، تقوم ادارة جديدة. يقام وعد جديد وأمل بغد أفضل، ليس في العراق، ولا في العالم العربي. فكل متغير عنفي يؤدي الى مزيد من العنف. لاحظوا النسبة التصاعدية في عنف العراق منذ التغيير الاول، منذ laquo;قصر النهايةraquo;، وسحل نوري السعيد ثم تقصيبه في شوارع بغداد. كم تصاعدت وحشية العنف وتوسعت رقعه منذ ذلك الوقت، وكم تواقحت مبرراته. وكم ازدادت فظاعة الصمت على القبور بالتساوي مع صور النواح واللطم في شوارع العراق.

المأساة القومية العربية الأزلية هي نتاج ثقافة المطلق. يكون الرجل هو الدولة وهو الشعب وهو المفكر، أو لا يكون الا سجينا من سجناء الرجل الآخر سواء بين الجدران أو خارجها. يخاف الحاكم المطلق من المشاركة ويشتبه في النصيحة ويرفض المشورة، لأنها تقتحم عالمه المرسوم. وهو لا يريد الخروج منه الى عالم حقيقي. الحقيقة ليست هي الحقيقة، بأرقامها ومكوناتها ومخاطرها، بل هي متخيلات الليل وكتابات الجاهلية الجديدة. ولا يعود الفرق مهماً بين مقال افتتاحي وبين عالم عمرو بن كلثوم.

مطلق وكلي وشامل ولا أجد سواه. وعندما يصبح محصنا في هذه الدائرة النفسية، ينصرف الى ان يكون كل شيء آخره حاكم هايتي الشهير فرنسوا دوفالييه اعلن نفسه أبا الشعب، الذي كان نصفه في السجون، وكان دائما يقول ان كتاباته laquo;الفكريةraquo; أهم بكثير من كتابات تروتسكي وماوتسي تونغ. وكان يصرف نصف موازنة أفقر بلدان الأرض، على حراسه وأمنه الشخصي. وألغى الجيش من أجل الحرس الجمهوري ومخابرات الرعب، والغى كل شيء آخر.

ليس لحكم الفرد لون ولا بشرة ولا قارة.

لذلك يبدأ كل حاكم مطلق بداية مختلفة تماما عما يدفع اليه فيما بعد. في المراحل الأولى اراد ـ وكاد ـ صدام حسين أن يحول العراق الى أول دولة صناعية في العالم العربي. واراد ان يعمم الثروة. وأراد ان ينسى العراقيون الفاقة التي عرفها مثلهم في بدايات العوجة. واستعان في السنوات الأوائل بالمتعلمين في حزب البعث، أمثال طارق عزيز ومحمد الصحاف وعصمت كتاني وسواهم. لكن عندما ازداد شعوره laquo;بالمطلقيةraquo; سلم أموره وأمور دولة مثل العراق الى عدي وقصي ووطبان وبرزان وحسين كامل المجيد. ولم يعد في استطاعة أحد ان يقف في وجه الحاكم المطلق ليقول له، دعك من الكويت وتذكر عبد الكريم قاسم. ولم يجرؤ أحد على ان يقول له انه لو هزم ايران فلن يستطيع العراقيون احتلال شعب يزيدهم اضعافا. ولم يستطع احد ان يقول له ان اميركا استعمار لكن العراق المفتقر والضعيف والصدئ السلاح، لا يستطيع ان يواجهها منفردا. لقد دخل الرجل المطلق الى عالم الرواية وأطبق دفتيها على نفسه وراح ينتظر خاتمة مأساوية دراماتيكية، لا تشبه في فظاعتها وغياب العدل فيها سوى نهاية تشاوشسكو بعد محاكمة مضحكة وسقيمة لدرجة انها لم تعرض على أحد.