روي هاترسلي


تحوَّل العراق الذي يمرّ منذ سنوات بمأساةٍ ورعب كاملين إلى مسرحية هزلية كُبرى. وكحقيقة ناصعة فهذا النوع من المأساة والرعب، وتلك المهزلة قد اتحدا في ما بينهما على أسس متساوية.
ينبغي أن نبتهج جميعاً، دون أدنى شك، بتدمير مركز الشرطة في حيّ الجمعيات بالبصرة، ونقل السجناء فيه إلى موقع آمن نسبيّاً لوقف التعذيب الروتيني اليوميّ الذي خضع له المُحتَجَزون.
لكن ما شاهدناه على قنوات التلفزيون من مهاجمة القوات البريطانية لوحدة مِن الشرطة العراقية، قامت هي نفسها بتأسيسها وتدريبها، وكانت تعمل معها، نظريا، لقرابة أربع سنوات، كافٍ لإطلاق صرخة لا تقتصر على التحذير من مخاطر هذه العملية في إضعاف معنويات قواتنا تحت النار هناك فحسب، بل صرخة تحمل الكثير من التساؤلات.

على الرغم من أنّه يُفتَرَض أن تكون أصوات الانفجارات التي دوَّت يوم الاثنين (25 ديسمبر 2006) أثناء تدمير مركز التعذيب هذا، كالموسيقى الناعمة لآذان كل من يؤيد سيادة القانون، إلا أنَّ عدداً من الأسئلة المهمة بقيت دون إجابة تحت حطام ما كان حتى صباح عيد الميلاد المقر الرئيس لوحدة مكافحة الجرائم الخطيرة في البصرة.

قال ضابط عسكري فَكِه يعمل في قسم التوجيه الإعلامي بالجيش البريطانيّ إن هذه الوحدة التي تضم 400 من ضباط الشرطة لم تكن تعمل لمنع الجريمة بل لارتكابها... هي وحدة الجرائم الخطيرة وليست لمكافحتها، حسب تعبيره. لكن هذا الضابط الظريف لم يُوضِّح منذ متى كانت السلطات البريطانية على علم بأنَّ من بين الأنشطة العادية والمنتظمة لهذه الوحدة هو سحق أيدي وأرجل السجناء، واستخدام الصعقات الكهربائية في التعذيب، وإطفاء السجائر في أجساد المُحتجزين؟
ستتذكرون أنّ واحدة مِن الأسباب التي أعطِيَت لتبرير غزو واحتلال العراق هو الالتزام بإنقاذ الناس من هذا النوع البشع من الممارسات الوحشية. لكن يبدو الآن جليّاً أن وصول، ما تمّ وصفه بجرأة فائقة، quot;الديمقراطيةquot; لم يُغيِّر من الأمر شيئاً، في مركز شرطة الجمعيات، على الأقل.

وفقا لبيان رسمي، فإنَّ الجيش البريطاني كان يملك quot;توجيهات واضحةquot; من رئيس الوزراء نوري المالكي، ومحافظ البصرة، محمد الوائلي، في quot;تفكيك الوحدةquot;. هذا التوجيه، يُخفِّف من الوطأة إلى حدٍ ما. لكن ماذا عن العميد محمد الموسوي، قائد الشرطة في البصرة ؟ لقد عبَّرَ هذا عن quot;الغضب الشديدquot; لما وصفه بأنه quot;محاولة لإثارة الشغبquot;. هل يتوجَّب علينا أن نواصل العمل مع هذا الرجل؟ إذا كان هذا يعرف ماذا كانَ يدور في مركز شرطة منطقة الجمعيات، فهو فاسد إلى حد لا ينبغي أن يكون رئيسا للشرطة في البصرة. وإذا لم يكن يعلم، فهو أيضاً غير كفء كيّ يبقى في منصبه بعد الآن.

تكمن أهمية هذا الضابط بأنّه يُمثِّل التجسيد المادي الحيّ لكل ما هو خطأ في احتلال العراق. لا يُمكن لأحد أن يتصوَّر مدى صعوبة الوضع في العراق، لأنه لا أحد بمقدوره أن يتأكّد مَن مِن الناس مع مَن ؟ وإلى أيّ حين ؟ هذا التشوّش والخلط في الولاءات يعكس سبب استمرار الرّعب. مُعظم العراقيين لا يريدون القوات الأمريكية والبريطانية أن تكونَ هناك في المقام الأول. الكثير من هؤلاء غيّروا رأيهم حينما اكتشفوا أنَّ عدد جرائم القتل قد ارتفعت بشدة وأنّ إمدادات المياه والكهرباء قد تقلَّصت منذ وصول quot;المُحَرِّرينquot;.

تتضح جليّاً طبيعة المعضلة ـ التي واجهها التحالف بسبب غباء المحافظين الجُدُد في واشنطن بجني مكاسب من الاحتلال ـ بتفاخر واعتزاز مُحافظ البصرة بوقوفه إلى جانب الاحتلال. قبل ستة أشهر وجّه دعماً لوحدة الجرائم الخطيرة في منطقة الجمعيات، لكن العراق هو دولة تغيير التحالفات والولاءات، وهكذا فإن المحافظ (وهو عضو في حزب الفضيلة الشيعيّ) قد تم إقناعه بتغيير ولائه بالانضمام لتحالف جديد. لا أستطيع أن أجزم أنه سيغيّر بالضرورة ولاءه الجديد في عام 2007، لكن لا أحد يساوره الشك بأنَّ التيارات المتقاطعة في النزاعات الطائفية والدينية، إلى جانب الرشاوى والأموال الفاسدة ستواصل تأثيرها في جعل سلوك السياسيين العراقيين أكثر تقلباً وأكثر صعوبة على التكهّن به. لقد بات ذلك السيناريو الذي تم التفكير فيه مُبكِّراً بأن الشوارع في بغداد ستشهد حشود العراقيين وقد اصطفّوا امتناناً ملوِّحين بالأعلام الأمريكية، ورافعين صور الرئيس بوش بعيداً جداً. حتى ذلك العمل الوحشي الذي لا معنى له بإعدام صدام حسين، لا يمنح الاحتلال أدنى أمل في تحقيق انتصار.

لغاية الأسبوع الماضي قالت واحدة من مؤسسات الدراسات الحرّة في واشنطن، ـ التي عادة ما تقضي وقتها بالتنظير على أن الاحتباس الحراري العالمي هو أسطورة، وأن توسيع الفوارق في الثروة بين الأغنياء والفقراء هو أفضل طريقة لمساعدة الفقراء - إن بمقدور الولايات المتحدة أن تحل أزمة العراق بإرسال 200,000 جندي. إذن كل المزاعم والتظاهر الكاذب في quot;التحريرquot; قد تم التخلي عنها في آخر الأمر. إذن هذا النوع من الناس الذي قاد التحالف إلى مستنقع العراق قرَّرَ أن الطريق الوحيد للخروج هو بفرض إرادة القوى الغربية بالقوة
على الناس الذين يقاومون الاحتلال أو quot;الإرهابيين أعداء الشعبquot; كما يسمونهم.

بالطبع لا تملك الخطة الجديدة فرصاً للنجاح أفضل من القديمة. كل ما يحدث في العراق يؤكد في المقام الأول أنه ما كانَ يجب علينا الذهاب إلى هناك أصلاً. هذه الحقيقة أكدها ذلك الضابط الصحفي البريطاني التعيس الحظ في البصرة، الذي شرحَ ـ أو حاول تبرير ـ سبب تأخّر القوات البريطانية في إنهاء التعذيب والقضاء على تنظيمات ومجموعات فرق الموت والاعدامات التي مارست نشاطاتها علناً انطلاقا من مركز شرطة حيّ الجمعيات. قال هذا الضابط ببساطة: quot;أولاً، كان علينا أن نتأكد من ضلوع الشرطة في عمليات القتل والإجرام،quot; في حين كان المواطن العادي في البصرة يعرف ذلك.

بعد أربع سنوات تقريبا مِن غزو العراق بقيادة الولايات المتحدة وإعلان الرئيس جورج بوش تحقيق النصر، كانت القيادة العليا للقوات البريطانية في البصرة مازالت غير متأكِّدة من أن الشرطة تمارس أعمال قتل وتعذيب، وهي لا تعرف أين يكمن ولاء قوات الشرطة. لقد أدان اللواء علي إبراهيم، وهو قائد كبير في الجيش العراقي بالبصرة، الخطوة التي اتخذتها القوات البريطانية بالقضاء على وحدة مكافحة الجرائم الخطيرة، ووصفها بأنّها غير قانونية. السؤال الآن هل ما زلنا نعتقد أن عملية نقل السلطة إلى عراق ديمقراطي حقيقي يمكن أن تتم في المستقبل المنظور؟ الجواب القاتم: لماذا، على الرغم من أن هدم مركز شرطة الجمعيات أمر مفرِح بحد ذاته، مازالت الأخبار تتواتر عن مواصلة الشرطة أعمال القتل والاغتيالات حتى بعد هدم مركز شرطة الجمعيات.

بفضل جورج بوش، وتوني بلير أصبحنا لاعبين رئيسيين في مسرحية مأساةٍ لا يبدو لها خاتمة. الانسحاب يعني ترك الشعب تحت رحمة المئات الأخرى مِن وحدات مكافحة الجرائم الخطيرة.
البقاء يعني تكثيف كراهية ومرارة كافة السكان لنا باستثناء مَن أوصلناهم إلى سدة الحكم الذين يمارسون أعمال القتل والإجرام. هل ارتكبت بريطانيا أسوأ خطأ في الدبلوماسية منذ أزمة السويس عام 1956 ؟ لكن بالمقارنة كانت لأزمة السويس نهاية سعيدة.