إياد أبو شقرا

في خضم الوعود صادقها وكاذبها، نسي اللبنانيون أو كادوا وعداً قطعه رئيس حكومتهم الأسبق الدكتور سليم الحص على نفسه وعلى اللبنانيين بـlaquo;اعتزالraquo; العمل السياسي في أعقاب هزيمته في الانتخابات النيابية عام 2000.

يومذاك أكد الحص، الاقتصادي الناجح والأكاديمي المرموق، انه من طينة متميزة بين من دخلوا ـ أو أدخلوا ـ المعترك السياسي. وبات في حدث تاريخي غير مسبوق في لبنان... أول رئيس laquo;حكومة انتخاباتraquo; يسقط في الانتخابات الجارية تحت إشراف حكومته.

الحقيقة، لم يكن سليم الحص في يوم من الأيام laquo;محترفraquo; سياسة وفق معاييرها المألوفة لبنانياً.

لم يكن زعيماً شعبياً، ولم يختر أن يكون كذلك. بل كان يفتقر إلى غريزة الحسم حيث يحتاج الأمر إلى حسم، وإلى مرونة الدبلوماسية حيث تقتضي الحاجة إلى اللف والدوران والإحجام عن تسمية الأمور بمسمياتها.

مع هذا، وجد كثرة من اللبنانيين في سليم الحص ضالتهم المنشودة، ولا سيما، إزاء تصوّرهم للبنان المستقبل. فقد كان شخصية نزيهة في مجتمع يسوده laquo;أثرياء الحربraquo;. وقيمة فكرية إبان حقبة تغييب التفكير، وحالة حضارية قبالة همجية دموية ترمي ثقلها على البلاد، ناهيك من أنه كان سياسياً بالمصادفة ... ولم يكن أبداً مجبراً على البقاء في لبنان للمحافظة على laquo;قطيعهraquo; وlaquo;أزلامهraquo;، بل كان في مقدوره تولي أرفع المناصب المالية والأكاديمية في أي مكان من العالم.

من ناحية أخرى، كان سليم الحص متفهماً بعمق لجذور الداء اللبناني، ولا سيما، مخاطر الطائفية السياسية. وهكذا غدت تعليقاته laquo;أمثلة سائرةraquo; على ألسنة الناس وأعمدة الصحف. ومنها قوله: laquo;لأول مرة في التاريخ ترفض أقلية أن تتساوى بالأكثريةraquo; ... في سياق انتقاده رفض قوى التعصب المسيحي ممثلة بالجنرال ميشال عون الموافقة على laquo;اتفاقات الطائف للوفاق الوطنيraquo;.

غير أن شيئاً ما في الدكتور الحص تغيّر... وسبحان مغيّر الأحوال!

فجأة، صار الزاهد في السلطة حالِماً بها laquo;مستقتلاًraquo; عليها... بعدما أبعد عنها طويلاً، وفجأة تناسى المدافع البليغ عن laquo;اتفاقات الطائفraquo; روح الاتفاقات وأهم نصوصها، وأصدر صكوك البراءة بالجملة ضد المتآمرين عليها.

البعض يقول إن شعبية رفيق الحريري في laquo;الشارع السنّيraquo; ضايقت معظم القيادات السنيّة وهمّشتها، ومنها طبعاً سليم الحص. والحق أن الحريري ـ رحمه الله ـ لم يتنبه كما يجب إلى هذا الواقع، ولم يتذكر بيت ابن الوردي الشهير:

laquo;إن نصفَ الناس أعداء لمن

ولّي الأحكام، هذا إن عدلْraquo;

وواضح اليوم، كيف يتجمّع كل المتضرّرين من نجاح الحريري ومكانته ـ وبالذات من الساسة السنّة التقليديين ـ ضمن صفوف المعارضة، مستظلين رعاية laquo;حزب اللهraquo; ومباركة دمشق.

جانب آخر، يستحق التوقف عنده، هو ان الحص، laquo;الأكاديميraquo; المنهجي المستاء من طريقة عمل الحريري laquo;المقاولاتيةraquo;، وجد عام 1998 في رئيس الجمهورية laquo;العسكريتاريraquo; المنتخب إميل لحود طريق الخلاص المأمول. وبعد laquo;خطاب القسمraquo; المتخم بالمثاليات الذي ألقاه لحود بعيد انتخابه، وبدئه عهده بسعي مكشوف إلى تحجيم الحريري، تيقن عدد من الساسة اللبنانيين، ربما كان بينهم الحص، أن laquo;مؤسساتيةraquo; لحود ـ ولو كانت laquo;أمنيةraquo; ـ قد تكون خير سلاح ضد laquo;شعبويةraquo; الحريري.

وفي المقابل، كان لحود بحاجة إلى شخصية محترمة في الشارع السني لتنفيذ انقلابه على laquo;الطائفraquo;. وكان بديهياً من laquo;خطاب القسمraquo; أن الرئيس الجديد المدعوم من القيادة الجديدة في دمشق عازم على الانقضاض على laquo;الطائفraquo; ورموزه ... وضربهم. وبدورها باشرت القيادة السورية الجديدة ـ التي تسلمت الملف اللبناني من نائب الرئيس السابق عبد الحليم خدام، عام 1998 ـ العمل لخلق laquo;زعامات دمىraquo; في لبنان تحل محل الزعامات الفعلية.

للأسف، ارتضى الحص لمدة سنتين لعب دور رئيس الحكومة laquo;الباشكاتبraquo; عند رئيس الجمهورية ... كما كانت عليه الحال في أيام ما قبل laquo;الطائفraquo;.

وللأسف أيضاً، سكت عن تنامي laquo;الدولة الأمنيةraquo; وتضخمها، وعن حملات الافتراء الإعلامية المنظمة والموحى بها، والملاحقات التأديبية بالشبهة التي سخّر لها حتى القضاء. ووصلت الأمور منتهاها إبان حملة انتخابات عام 2000، التي شهدت أحط مستويات إساءة استخدام السلطة أمنياً وقضائياً وإعلامياً. وجاء رد الشعب اللبناني مجلجلاً، فأسقط الحكومة ورئيسها.

الرئيس الحص، المتألم من هذه التجربة، أعلن على الأثر laquo;اعتزالهraquo; العمل السياسي، ولو أنه مع إعلانه وجه laquo;شكراًraquo; أقرب ما يكون إلى الشتم إلى الناخب البيروتي الذي أسقطه، متهماً إياه بالجحود ونكران الجميل.

وكما هو معروف، بعد هذه النكسة استعاد الحريري ـ برغم عداء لحود له ـ رئاسة الحكومة حتى استقالته في أكتوبر/تشرين الأول عام 2004، بعدما أدى تصاعد الخلاف بين الرجلين من جهة، وبين الحريري ودمشق من جهة أخرى، إلى laquo;الافتراقraquo; بسبب إصرار الأخيرة على تمديد ولاية لحود الرئاسية. ومن ثم، تطور الافتراق إلى عداء سافر مع تشكيل الرئيس عمر كرامي laquo;حكومة اللون الواحدraquo; المرعية سورياً، التي اغتيل الحريري إبان فترة حكمها يوم 14 فبراير/شباط 2005.

خلال هذه الفترة كان الحص قد أصبح حليفاً للحود ولدمشق، وخصماً معلناً للحريري وحلفائه. ومع أنه أسّس لنفسه منبراً سياسياً دعاه laquo;منبر الوحدة الوطنية ـ القوة الثالثةraquo;، فإنه رغم تكراره أنه اعتزل العمل السياسي، كرّس منبره لدعم مواقف رئيس الجمهورية وسياسة دمشق تحت ذريعة دعمهما للمقاومة وتصديهما للعدوان الأميركي.

ودأب يومياً ـ تقريباً ـ على إصدار البيانات والتصريحات تعليقاً وتعقيباً على أي شيء، بما في ذلك laquo;توبيخraquo; واشنطن على مواقفها laquo;الظالمةraquo; إزاء قضايا العرب والعالم (!) وكأنه كان يأمل أن يسفر التوبيخ عن نوبة خجل أو فعل ندامة أميركي ... مثلاً.

العالم العلامة الذي عاش في أميركا لعدة سنوات وحصل على الدكتوراه في إحدى كبريات جامعاتها ... اكتشف laquo;إمبرياليةraquo; السياسة الأميركية laquo;فجأةraquo; وهو في العقد الثامن من عمره!

ولكن لم تقتصر الاكتشافات على أميركا.

ففي لبنان، اكتشف الحص أن الجنرال عون، الذي نازعه laquo;شرعيةraquo; رئاسة الحكومة بين 1989 و1990 مترئساً حكومة عسكرية من دون مسلمين ... رجل laquo;اعتدالraquo; وlaquo;وطنيةraquo;!

وسمح لنفسه بأن يُستخدم متراساً ترشق منه السهام على الحكومة المنتخبة ديمقراطياً. وأن تتصدر تصريحاته الساذجة حملات التهجم المنظّم.

وفي الاسبوع الفائت أطلق مبادرة عبثية غريبة تهدف إلى إلغاء الحكومة وتسليم أمر البلاد فعلياً إلى رئيس الجمهورية من دون أن يستشير قانونيين ـ باعترافه هو شخصياً ـ في تفاصيل الآلية الدستورية الصحيحة!

وكما لو كان حريصاً على تشويه صفحة سيرته الناصعة ها هو، بلا كلل أو ملل، يلهث وراء الوقوف مع دمى استخباراتية مكشوفة، والاجتماع بها والتنسيق معها.

خسارة ...

سليم الحص كان ذات يوم أكبر من المناصب السياسية. وأرفع بكثير من مساكنة العملاء الصغار.

لقد وعد اللبنانيين بالاعتزال.. فيا ليت كان laquo;وعده صادقاًraquo;!