حمزة قبلان المزيني


من المفارقات اللافتة أن يتزامن إعدام الرئيس العراقي السابق صدام حسين مع وفاة الرئيس الأمريكي الأسبق جيرالد فورد. وكان فورد قد تمتع قبل وفاته بثلاثين سنة من الحياة كان في خلالها موضع تكريم وحفاوة أينما حل بعد أن تسلم الرئاسة الأمريكية خلَفُه الرئيسُ الأسبق الآخر جيمي كارتر. وكذلك كان خلفه الرئيس كارتر الذي أمضى إلى الآن ستا وعشرين سنة ينعم فيها بالتكريم ويقضي وقته في تأليف الكتب وكتابة المقالات والمشاركة في كثير من المشاريع الخيرية التي تهدف إلى مساعدة الفقراء داخل الولايات المتحدة وخارجها. ولم يكن هذان الرئيسان الأمريكيان الوحيدين اللذين تمتعا بهذه الحياة الهانئة بعد مغادرتهما البيت الأبيض؛ فقد عاش الرئيس الأمريكي الأسبق نيكسون سنين طويلة معززا مكرما بعد استقالته من الرئاسة بسبب انتهاكه القانون الأمريكي. وعاش الرئيس الأسبق ريجان أكثر من عشر سنوات بعد مغادرته البيت الأبيض، وما يزال الرئيس بوش الأب، ومنذ ما يقرب من خمسة عشر عاما، ينعم بمستوى الحياة نفسه، وعاش الرئيس السابق كلينتون ست سنوات إلى الآن وهو محل حفاوة أينما حل في أمريكا وخارجها.
وتلفت هذه المفارقة النظر؛ ذلك أن العراق شهد في خلال العقود الخمسة الماضية قتل زعمائه كلهم تقريبا: وكان أولهم الملك فيصل الثاني الذي قُتل هو وأسرته بطريقة وحشية غير مسبوقة، وكان ثانيهم عبد الكريم قاسم الذي قتل بالطريقة نفسها، وكذلك الأخوان عبد السلام وعبد الرحمن عارف، وبعد ذلك أحمد حسن البكر الذي أزيح عن الرئاسة بطريقة مذلة لا تختلف عن الطريقة التي أزيح بها سابقوه إلا بدمويتها، ثم ختم هذا المشهد بإعدام صدام حسين يوم عيد الأضحى الحالي.
إن ما يحدث في العراق طوال العقود الخمسة الماضية لدليل واضح على تأصل ثقافة الثأر البدائية البغيضة التي تتخفى تحت ستار الانقلابات العسكرية أو المحاكمات الصورية. كما يشير إلى البون الشاسع بين ما تتمتع به الولايات المتحدة من ديموقراطية تحت حكم القانون وما يحدث في العراق الذي تسيطر عليه منذ أربع سنوات حيث تناقض مبادئها عبر تمكين بعض العناصر من التحكم فيه مع أنها لا تتمتع بالحدود الدنيا من تلك المثل.
ولا تختلف القيادة العراقية الحالية عن القيادات العراقية التي سبقتها؛ فقد اتبعت المنهج الثأري نفسه. وكان المنتظر منها، وقد زعمت أنها تبدأ عهدا جديدا مختلفا عن العهود السابقة، أن تفك الارتباط بينها وبين ثقافة الثأر الوحشية هذه وتتبع المسارات العالمية القانونية التي اتُّبعت في السنوات القليلة الماضية. ومنها محاكمة مرتكبي الجرائم ضد الإنسانية أمام المحكمة الدولية في لاهاي كما حدث لرئيس يوغوسلافيا السابق ميلوسوفيتش، وبعض الزعماء الأفريقيين القتلة. وهناك مسار اتبعته جنوب إفريقيا بعد انتهاء حكم التفرقة العنصرية، وهو مسار يقوم على المصارحة التي تؤدي إلى اعتراف المجرمين بجرائمهم وتتبعها المصالحة التي تقوم على الصفح عنهم. وقد حققت هذه الطريقة قدرا عظيما من السلام في جنوب إفريقيا وأدت إلى شفاء النفوس من الجراح التي تسببت بها سياسة الفصل العنصري التي استمرت عقودا طويلة.
لذلك كان من الأوفق للحكومة العراقية إما أن تسلم صدام حسين لمحكمة العدل الدولية التي ستحاكمه بعيدا عن المؤثرات المحلية العراقية أو محاكمته والذين شاركوه في ارتكاب جرائمه أمام محاكم للمصارحة التي لا تؤدي إلى الانتقام بقدر ما تؤدي إلى العلاج النفسي للأمة كلها.
ولا شك أن صدَّاما ارتكب من الجرائم ضد شعبه وضد الدول المجاورة ما يستحق عليه العقاب. لكن مسار محاكمته وتنفيذ الحكم فيه لن يؤديا إلا إلى زيادة الاحتقان بين الفئات المكونة للشعب العراقي لأن محاكمته أوحت بأنها لم تكن بسبب الجرائم كلها التي ارتكبها بل بسبب ما يتهم به من جرائم ضد فئة واحدة وحسب.
ولم تتحقق العدالة لا لصدام ولا لضحاياه من خارج الفئة التي تسيطر على الحكومة التي حاكمته. فقد كان محاكموه ينتمون إلى الفئة التي تسيطر على الحكومة العراقية وهم خصومه في الوقت نفسه. ولم يحاكم على ما تدعيه عليه الفئات الأخرى في العراق. وهذا ما يؤكد أن الفئة المتغلبة في العراق الآن ترتكب ما تتهم صدام به من استئثار بمقدرات العراق. إن الاكتفاء بمعاقبته على ما فعله في حق طائفة واحدة فقط إنما يؤكد بشكل لا لبس فيه أن عقابه لم يكن لجرائمه تجاه الإنسانية؛ بل كان بسبب جرائمه ضد طائفة معينة تظن أن لها من الحقوق ما ليس للآخرين من المواطنين العراقيين.
ويؤكد ما رافق إنزال عقوبة الإعدام بصدام أن مبعث هذه العقوبة لم يكن القصاص العادل النزيه بقدر ما كان تحقيقا لغريزة الثأر منه. فقد استمع العالم أجمع إلى بعض الشعارات الطائفية التي رددها بعض الحاضرين، واستمع إلى الهتافات باسمي زعيمين quot;سياسيينquot; عراقيين ينتسبان إلى الطائفة نفسها. ووصل مستوى التشفي منه إلى حد غير مقبول؛ فقد أمطره بعض الحاضرين باللعنات ووصفه بعضُ السياسيين العراقيين الذين حضروا إعدامه بالرعب والاستسلام الذليل للذين نفذوا العقوبة به وعدم مقاومتهم. إن هذه المواقف مما يحسب على هؤلاء السياسيين الذين اختاروا أن تكون محاكمته وإعدامه وسيلة لتغطية نزعتهم البدائية لأخذ الثأر، بدلا من أن تكونا فرصة لرأب الصدع بين الفئات المتناحرة في العراق ولتعليم السياسيين العراقيين وغير العراقيين درسا في الصفح عند المقدرة والاحتكام إلى القانون وعدم استغلال ما يتوفر لهم من القوة.
لقد كان بإمكان هذه الفئة المتغلبة أن تضرب مثلا مبدئيا في الترفع عن الأخذ بالثأر. ولو فعلت ذلك لكانت قد نجحت في احتواء الفئات الأخرى في العراق وأدخلت عليها الطمأنينة وسلبت المتطرفين أمضى الحجج التي يتذرعون بها للقيام بأعمال القتل على الهوية الذي يجتاح العراق الآن.
ومن المشكلات التي أثارها تنفيذ الإعدام بصدام أنه كان إسهاما في الرمزية التي ظل التاريخ الإسلامي ضحية لها منذ عشرات القرون. إذ يشير تنفيذ الإعدام فيه في يوم عيد الأضحى إلى استحضار حادثة مشهورة أُنزل الإنسان فيها إلى مستوى الحيوان الذي يضحى به، ويتبع من ذلك إنزال من يؤيد هذا الإنسان إلى المستوى نفسه. ولا شك أن العنف سوف يستمر ما دام الأمر وصل إلى هذا المستوى من الرمزية. كما يؤكد أن زعماء الفئة التي لا تزال تناصب الأمويين العداء يفعلون فعلا لا يختلف عما فعله أكثر ولاة الأمويين دموية.
إن من المستبعد أن يحل تنفيذ حكم الإعدام بصدام المشكلات التي يعاني منها العراق. بل إن هذا الفعل سوف يزيد من اشتعال الوضع لأن كثيرا من الذين يشتكون من الظلم الذي أوقعه بهم صدام يرون أنهم لم ينصفوا. وسوف تنظر بعض الفئات إلى هذا الفعل على أنه يأتي في سياق تصفية الخصوم وأنه ليس إلا حلقة في الصراع الطائفي العنيف الذي يذهب ضحيته آلاف الأبرياء من الطائفتين.
وبما أنه لا يمكن إعادة عقارب الساعة إلى الوراء فإنه يمكن للعراقيين من كافة الطوائف العمل على أن يكون هذا الحدث فاصلا بين ما دأبوا عليه منذ خمسة عقود من الانغماس في ثقافة الثأر، وما دأبوا عليه منذ أربع سنوات من قتل على الهوية ورغبة عارمة في استئصال المخالفين وبين مستقبل يبدأونه الآن يتمثل في العمل على رأب الصدع والتخلي عن تحكيم الغرائز.
ولا يخلو العراق من بعض الأصوات الواعية التي يجدر الاستماع إليها. ومن هؤلاء الشيخ (الشيعي) السيد إياد جمال الدين النائب في البرلمان العراقي الذي نادى منذ الأيام الأولى للاحتلال الأمريكي بقيام دولة مدنية لا تخضع للمحاصصة الطائفية وتحكُّم الزعماء الدينيين. وقد ظهر في مقابلة على قناة الجزيرة في الأسبوع الماضي وأكد أن الحكومة العراقية الحالية طائفية بامتياز وأنها تخضع لولاية الفقيه وإن كان بشكل غير علني. ودلل على ذلك بسيطرة المراجع الدينية على الانتخابات وتوجيه الناس، دينيا، لانتخاب قوائم تباركها ومن خلال خضوع السياسيين العراقيين إلى مشيئة هذه المراجع في الشؤون كافة تقريبا (ومما يشهد بصحة قوله لجوءُ رئيس الوزراء العراقي الحالي إلى السيد علي السيستاني للحصول على فتوى تجيز تنفيذ حكم الإعدام بصدام يوم عيد الأضحى).
كما نادى بألا يقسم العراق quot;عرضياquot; بحيث يكون الجنوب للشيعة والوسط للسنة والشمال للأكراد. واقترح أنه ينبغي بدلا من ذلك أن ينقسم العراق quot;طولياquot; بحيث يكون هناك أحزاب ممثلة للفعاليات السياسية التي تتشابه في برامجها وينتمي إليها الأكراد والسنة والشيعة.
إن مثل هذه الأصوات العراقية الواعية هي التي تمثل مستقبلا واعدا للعراق ويمكن أن تنقذه من سيطرة الطوائفيين الذين لا يرون الإنسان إلا من خلال هوية واحدة يستمدها من الطائفة التي يتبعها. لقد جر هؤلاء على العراق من القتل والتدمير أضعاف ما تعرض له في خلال العهود السابقة. وهذا ما يوجب على الوطنيين العراقيين التوحد للوقوف في وجه دعاة الموت والتفرقة وتبادل الثأر.

* أكاديمي سعودي