حكم البابا


قدّمت الولايات المتحدة الأمريكية وصنيعتها الحكومة العراقية بكل وجوهها الاكسسوارية منذ التاسع من نيسان (ابريل) 2003 للرئيس العراقي المخلوع صدام حسين كل ماتمني أن يحصل عليه خلال حكمه كلّه ولم يقدر، فالرجل الذي حاول أن يحمل لقب حامي البوابة الشرقية للأمة العربية وقائد القادسية الجديدة، وباني جيش القدس وآمر إطلاق الصواريخ علي اسرائيل، ومستعيد أرض الكويت إلي السيادة العراقية، والمتصدي للامبريالية الأمريكية، كانت سجونه المرعبة ومقابره الجماعية تقف حائلاً أمام أي التفاف شعبي عربي كامل حوله، وتمنع أي تعاطف عراقي حقيقي معه، ولهذا السبب الأخير احتل الجيش الأمريكي بغداد بدبابتين فقط، ولم يعثر صدام حسين من بين كل الجموع الشعبية التي كانت تسيّر للهتاف بحياته، واستعراضات القوة التي كانت تمر أمام شرفته طوال فترة حكمه من يطلق رصاصة دفاعاً عن نظامه، ولم تظهر أية مقاومة حقيقية للجيش الغازي، إلاّ بعد تأكد العراقيين من أن نتائج مقاومتهم وانجازاتها ستعود لهم، ولن يستفيد منها صدام حسين ونظامه في إطالة تسلطهما ولو لساعات.

لكن وبعد أن تفوق جيش الاحتلال الأمريكي وميليشياته العراقية علي نظام صدام حسين في القتل والتشريد والتعذيب والسجون والمجازر، وبعد أن تحولت محاكمة صدام حسين عقب القبض عليه إلي صورة أكثر كاريكاتورية من المحاكمات الصورية التي كان يجريها صدام لمعارضيه خلال حكمه، سواء في قضاتها أو شهودها أو جهة ادعائها أو قرار حكمها المسبق، وبعد أن ظهرت واقعة إعدام صدام حسين في توقيت تنفيذها فجر أول أيام العيد الكبير للمسلمين، وهتافات منفذيها أقرب إلي حالة الأخذ بالثأر المذهبية والانتقامية منها إلي احقاق الحق وتنفيذ العدالة، وبعد أن تحول العراق إلي أرض مستباحة يسيل فيها من الدماء أكثر مما يسيل من المياه، استطاع صدام حسين السجين أولاً ومن ثم الميت أن يحقق ماعجز عنه خلال حياته في كل الفترة التي قضاها حاكماً للعراق، فتحول بسبب الغباء الأمريكي والتعصب المذهبي الأعمي لحكومة المليشيات العراقية إلي رمز وشهيد علي مستوي الشارع العربي كلّه، وباستثناء بعض الأصوات ذات اللون المذهبي فإن كل الآراء التي بثت عبر شاشات الفضائيات العربية سواء لمحللين أو لمواطنين أعطت صدام حسين ميتاً كل ماكان يطمح له عبر كل مغامراته خلال حياته ولم ينله.

ربما كان جهل الأمريكيين بالمنطقة العربية، ومجاراتهم للأحقاد المذهبية والاثنية التاريخية التي تحرّك حكام العراق اليوم هو الذي جعلهم ينساقون وراء المحاكمات الثأرية لصدام حسين في قضيتي الدجيل والأنفال تحديداً، بدلاً من محاكمته بالتهم الحقيقية التي يجب أن يحاكم عليها، كمغامراته العبثية في شن الحرب علي ايران ثم تنازله لها عما اعتبره نصراً عليها، وغزوه للكويت ثم انسحابه واعترافه بسيادتها ودفع تعويضات لها، وعما فعله بالعراق وشعبه من إفقار وظلم طال كل معارضيه، ولم يقتصر علي مذهب معين أو قومية محددة، وعندها كان صدام حسين سيموت كديكتاتور لا كشهيد كما حدث الآن.

وإذا كان الأمريكيون قد نجحوا في اسقاط العراق تلفزيونياً وإعلان إزالة نظامه بعد دخولهم بغداد قبل سقوطه الفعلي، عبر مشهد اقتلاع تمثال صدام حسين في ساحة الفردوس وطرحه أرضاً، فإنهم أخطأوا في رسم مشهد نهاية حقبة صدام حسين حين قدموا صورة إعدامه باعتباره يخص فئة من فئات الشعب العراقي، ووسط هتافات مذهبية وترداد ثأري لاسم أحد قادة المليشيات العراقية، فحولوه إلي بطل وشهيد، إلي الدرجة التي تجعلني أعتقد أنه لو كان صدام حسين هو من خطط لمشهد إعدامه، فلن يجد مشهداً أكثر اتقاناً وإقناعاً لخدمة صورته التي حاول رسمها طيلة حياته من المشهد الذي أعدم به!