د. رضوان السيد


هتف المتظاهرون من الإسلاميين والعامة في عمّان -والذين خرجوا إلى الشارع احتجاجاً على إعدام الرئيس العراقي السابق صدام حسين- ضدّ إيران أكثر مما هتفوا ضد الولايات المتحدة! بيد أنّ quot;أهل الرأيquot; المتفقين على استنكار إعدام صدّام في المبدأ أو في الطريقة ليسوا متفقين على مَنْ هو الطرف الذي يتحمل المسؤولية الرئيسية. فالذين يميلون لترجيح كفّة إيران فيما حصل يذكرون أنّ المحكمة التي حكمت على صدّام كانت مكوَّنةً من قضاة شيعة برئاسة كردي. ثم إنّ الذين نفّذوا حكم الإعدام كانوا قد تسلّموا الأسير من الأميركيين، وكان بوُسعهم تأجيل الإعدام لأيامٍ أو أسابيع وقد آثروا تنفيذ الحكم خلال ساعات قليلةٍ بعد توقيع رئيس الجمهورية (الكردي) ورئيس الوزراء (الشيعي من quot;حزب الدعوةquot;) عليه.

وقد حضر التنفيذَ -إلى جانب المولجين بالتنفيذ- رسميون كبار صوّروا بكاميرات هواتفهم المشهد المؤسي، ومن ضمن ذلك هتافات أنصار السيد مقتدى الصدر المتشفِّية والثأرية. وبعد الإعلان عن خبر الإعدام ما رحَّب بذلك غير الولايات المتحدة وإسرائيل وإيران... والكويت. وقد أضاف الرئيس الإيراني لإعلان التأييد للإعدام صبيحةَ عيد الأضحى قولَه: إنّ العدالة الإلهية هي التي قصمت عنق صدّام، وستقصمُ أعناق كلّ أولئك الذين ناصروه في غزوه لإيران عاجلاً أم آجلاً!

أمّا الذين يرجّحون كفة الولايات المتحدة فيما حصل، فيذكرون أنّ الرئيس الأميركي اجتمع بكبار مساعديه في البيت الأبيض يومَ الأربعاء حيث تقرر تنفيذُ الإعدام بصدّام؛ ولذلك أسبابُ داخليةٌ تتصل بالفشل الأميركي في العراق وإظهار بوش أنه ليس عاجزاً عن الانتصار كما سبق له أن ابتهج طويلاً لمقتل الزرقاوي وحاول استغلالَ ذلك شعبياً. ثم إنّ صدّاماً كان معتقلاً عند الأميركيين، وكانوا يستطيعون تأجيل تسليمه ولو لأيامٍ لكنهم أرادوا إظهار تصميمهم على مصارعة المقاومة ورموزها، وكسْر معنويات المقاومين، وإرضاء أنصارهم ممن أوصلوهم إلى السلطة بالعراق وهم ثلاثةُ أطراف: الأكراد أعداء صدام الأشدّ سخطاً، وquot;المجلس الأعلىquot; (عبد العزيز الحكيم) الذين جاءوا إلى العراق مع الأميركيين من إيران والمنطقة الكردية، وquot;حزب الدعوةquot; (ومنه المالكي رئيس الوزارة) الذي قتل صدّامُ مؤسِّسه السيد محمد باقر الصدر والمئات من أنصاره. ويُضاف إلى هؤلاء طرفٌ رابعٌ هو السيد مقتدى الصدر، المُعارض للأميركيين، والكاره للحكيم ولـquot;المجلس الأعلىquot;؛ لكنه يذهبُ إلى أنّ صدّاماً ما قتل عمَّ أبيه السيد محمد باقر الصدر فقط؛ بل قتل والده السيد محمد محمد صادق الصدر واثنين من إخوته. وبذلك يكون الأميركيون -بحسب هذه النظرةndash; قد أرضَوا الداخل الأميركي، والشيعة العراقيين وحلفاءهم الأكراد، ونالوا من عزيمة البعثيين والأصوليين السُّنة.

والذي أميلُ إليه وجهةُ النظر الثانية التي تقول بمسؤولية الأميركيين إنما ليس لإرضاء أعداء صدام الداخليين فقط، ولا لإيهام الرأي العامّ الأميركي فقط، ولا لكسْر عزيمة المقاومين فقط؛ بل ولإحراج إيران أيضاً، ودفْع الاضطراب الطائفي في العراق إلى نقطة اللارجوع.

ولنتذكر أنّ الأميركيين دخلوا إلى أفغانستان بالتوافُق مع إيران، وكان quot;حزب الوحدةquot; الشيعي الموالي لإيران يقاتل إلى جانبهم مع تحالُف الشمال. ثم دخلوا إلى العراق بعد أن اتفقوا مع الأكراد في الشمال، ومع المعارضة العراقية الموجودة بإيران والمكوَّنة من quot;المجلس الأعلىquot; وquot;حزب الدعوةquot;. والمعروف أنّ ميليشيات الحزبين بالإضافة إلى البشمركة الكردية جاءت إلى جنوب العراق ووسطه وشماله مسلَّحةً وبعشرات الألوف. وأضيف إليها مسلَّحو قوات الأمن الجديدة، والجيش العراقي الجديد باستثناءاتٍ ضئيلة. ورغم الصراخ الإيراني العالي الوتيرة ضد الولايات المتحدة بين 2001 و2006؛ فإنّ أحداً من أنصار إيران بالعراق (وهم جميعاً في السلطة الآن) ما أطلق رصاصةً ضد الاحتلال بما في ذلك المعارضون (السلميون) للاحتلال من ميليشيات الصدر. وفي الوقت الذي كانت فيه كفة أنصار إيران، وإيران نفسُها، تزداد حضوراً بالعراق عبر آلاف العناصر الآتية من داخلها إلى البلد المجاور لأسبابٍ وعِلَلٍ مختلفة، كان quot;حزب اللهquot; في جنوب لبنان يكوّم أسلحةً وينشئ تحصيناتٍ على حدود فلسطين المحتلة دون أن تحرك إسرائيلُ ساكناً طوالَ أكثر من خمس سنواتٍ بعد انسحاب جيشها من لبنان عام 2000. وهذا يعني أنّ الأميركيين والإسرائيليين ما كانوا خائفين من الوجود الإيراني المسلَّح بالعراق وبلبنان؛ لأنّ بين الطرفين مهادناتٍ وتفاهُمات بالشراكة أو عدم الاعتداء.

بيد أنّ عام 2006 شهد متغيراتٍ كبيرةً لدى الطرفين الأميركي والإيراني: اتجه الأميركيون إلى قاعٍ عميقٍ من الفشل بالعراق، وما أظهر الإيرانيون استعداداً لمساعدتهم؛ بل إنهم بدأوا يطالبونهم بالخروج. وصعّد الإيرانيون من مسألة النووي فأقلقوا بذلك أميركا وإسرائيل معاً. وعندما تشدد الأميركيون في مسألة النووي بعد أن كانوا قد تركوها للأوروبيين والروس قُرابة السنتين، ردَّت إيران بضربة quot;حزب اللهquot; في إسرائيل، وبمساعدة quot;حماسquot; في فلسطين، وبإعلان السيد الخامنئي عن إرادة هَزْم أميركا في لبنان؛ بل والتهديد بالتواصل مع المقاومة في العراق وفي أفغانستان. إيران تعتقد منذ أواسط عام 2006 أنّ من حقِّها صَون مصالحها القومية من طريق مناطق النفوذ التي أوجدتْها بالمنطقة العربية إبان فترة المهادنة مع الولايات المتحدة. وسلاحُها الأفعَلُ رَفْعُ عَلَم فلسطين، والدعوة لإزالة إسرائيل من الوجود، واعتبار نفسها حاميةً لحمى الإسلام. بيد أنها في تحركاتها الضاغطة على الولايات المتحدة في الأساس أسهمت في تصعيد الحساسيات المذهبية والإثنية والسلطوية في كلٍ من العراق وفلسطين ولبنان. وقد بدأ السُخْطُ على إيران من جانب الأنظمة العربية في الخليج والمشرق. لكنه الآن تجاوَزَ ذلك إلى أوساط الجمهور، وإلى أوساط الأصولية الأُخرى: الأصولية السُّنية المشتعلة، والتي قادت الصراع المسلَّح ضد الولايات المتحدة وإسرائيل.. والغرب كلّه، طوالَ العقد الماضي من السنين.

إنّ الولايات المتحدة، وباستخدامها مسألة صدام حسين بهذه الطريقة إنما تزيدُ من تسعير الملفّ السُّني/ الشيعي المندلع خلال العامين 2005 و2006. ولا ندري من رتّب تفاصيل إعدام صدّام، لكنّ الأميركيين سلَّموه إلى المسيطرين ببغداد بوعي، وتركوا للغرائزية العراقية المشهورة والمعهودة في قتل فيصل الثاني ونوري السعيد وعبدالكريم قاسم وآلاف آخرين أن تفعل الباقي؛ بحيث تنتفي كل إمكانيةٍ لتلاقٍ شيعيٍ/ سُنيٍ في المدى القريب. وهكذا وضعوا إيران في المشهد المستجدّ للتجاذُب بينهما بعد تزعْزُع التعاون أو المُهادنة أمام أحد خيارين: إمّا العودة للتنسيق، والمُطامنة من الطموحات، أو المُخاطرة بالاندفاع في نزاع سُني/ شيعي لا يستطيع أنصارُها في فلسطين المُضيَّ فيه إلى نهاياته (لنتذكر أنّ الذين تظاهروا بالآلاف في عمّان هم في أكثرهم من quot;الإخوان المسلمينquot;، حلفاء quot;حماسquot;)، وكذلك الأَمْرُ مع quot;حزب اللهquot; في لبنان. أمّا في العراق فلاشكَّ أنَّ كلَّ أملٍ بتهدئةٍ أو حلٍ حتى فيدرالي قد انتهى في الأمد المنظور. وقد كان البعثيون المقاومون وضباط الجيش السابق والإسلاميون يشكون من النفوذ الإيراني، ومن إجرام جماعة quot;المجلس الأعلىquot; ومقتدى الصدر؛ لكنهم ظلُّوا يعتبرون الأَولوية لمقاتلة الأميركيين. أمّا بعد إعدام صدَّام (ومن جانب أنصار إيران) بهذه الطريقة المُذِلَّة؛ فإنّ الشعارات الطائفية والقومية أو العِرْقية البغيضة ستكونُ لها اليدُ العليا، وربما ينسى كثيرون أنّ الاحتلال الأميركيَّ هو أصلُ العلِة، وينصرفون إلى مكافحة quot; الفرسquot; وأنصارهم بالعراق!

توقّع الأميركيون من وراء إعدام صدام حسين بهذه الطريقة توريط إيران والعرب في صراعٍ دينيٍ وقوميٍ مرير. وهم بذلك لا ينتقمون فقط من الإيرانيين الذين خدعوهم؛ بل ومن الأصولية السُّنية التي نصبوا لها هدفاً وهمياً هو الهدفُ الإيراني والشيعي القريب، وما أهون القتل الطائفي بالمقارنة مع مقاتلة المحتلّين والإمبرياليين!

فالنارُ تأكلُ بعضَها إن لم تجد ما تأَكُلُهْ.