د. عبدالله المدني


تعتقد السلطات الفلبينية أن جثة عثر عليها مدفونة في مكان مهجور من جزيرة quot;خولوquot; في أقصى جنوب البلاد هي لزعيم جماعة quot;أبي سيافquot; المدعو quot;قذافي جانجالانيquot; أو المعروف بين أنصاره باسم quot;أبو مختارquot;. لكن قطع الشك باليقين يحتاج بطبيعة الحال إلى انتظار نتائج تحاليل الحمض النووي، ومقارنتها بتحاليل مماثلة لشقيق quot;القذافيquot; الأصغر quot;هكتور جانجلانيquot;، المعتقل في مانيلا. وهذه قد تستغرق أسابيع عدة بسبب تحلل الجثة التي يعتقد أن صاحبها قتل في عمليات عسكرية جرت في سبتمبر الماضي.

وهكذا فإذا ما أثبتت التحاليل خلاف ما تتمناه مانيلا، فلن يكون ذلك بالأمر الجديد، لأنها سبق وأن أعلنت أكثر من مرة قضاءها على الرجل، ثم تبيَّن في كل مرة أنه لا يزال على قيد الحياة. أما إذا ثبت أن الجثة فعلاً لـquot;القذافيquot;، فإن مانيلا تكون قد سددت ضربة قوية لهذه الحركة المسؤولة عن العديد من عمليات القتل والتفجير والاختطاف والابتزاز واحتجاز الرهائن على مدى العقد الأخير، وبما جعلها أقرب إلى قطَّاع الطرق واللصوص منها إلى الحركات الوطنية المناضلة من أجل أهداف نبيلة. بل تكون مانيلا قد أسدت أيضاً خدمة كبيرة للولايات المتحدة، على اعتبار أن quot;القذافيquot; الفلبيني مُدرج على قائمة الإرهابيين المطلوبين أميركياً، ناهيك عن رصد واشنطن لجائزة بمبلغ خمسة ملايين دولار لمن يأتي برأسه.

ما يعزز اعتقاد الفلبينيين هذه المرة بمقتل الرجل هو ما رشح مؤخراً من أن أنصاره نصبوا زعيماً جديداً لهم هو quot;رادولان ساحرونquot; الذي لا يعرف الكثير عنه. لكن هذه أيضاً ليست بينة، لأن تاريخ الحركة يشير إلى أنه في أكثر من مناسبة خرج من صفوفها من يعمل لحسابه الخاص، ويدعي تسيده عليها.

والحقيقة أن هذا التنظيم هو أفضل تجسيد للجماعات التي تغلف أنشطتها بشعارات quot;جهاديةquot; وإسلامية، وتوظف الاستحقاقات الوطنية لشعوبها، من أجل غايات سلطوية ومكاسب ذاتية، حتى وإنْ كان الثمن هو قتل الأبرياء وتشريد الأسر وتيتيم الأطفال وإعاقة التنمية وسلب مواطنيهم حقوقهم في الحياة والعمل والتعليم وإعمار الأرض. والأدلة على صحة ما نقول أكثر من أن تحصى، لكننا نتوقف عند أبشع أربع جرائم ارتكبتها الجماعة، التي يكفي اختيارها لاسم quot;أبو سيافquot; دليلاً على شغفها بجز الأعناق بالسيوف، كان آخرها تفجيرها لعبَّارة ركاب في عام 2004، وهي العملية التي أودت بحياة 116 بريئاً وعدت من أسوأ حوادث الإرهاب في جنوب شرق آسيا.

ففي عام 1998 قامت باختطاف ثلاثة أشخاص من رعايا ماليزيا وهونغ كونغ من العاملين في مشروع للصيد البحري في جنوب الفلبين، وهددت بجز أعناقهم إنْ لم تحصل على فدية مالية كبيرة. ولأنها حصلت على ما طلبته، فقد أعادت الكرة مرة أخرى، لكن بصورة أكثر وحشية، وذلك حينما أقدمت في مارس 2000 على اختطاف أكثر من 50 طفلاً ومعلمة من مدرستين قريبتين في جزيرة quot;باسيلانquot;، مطالبة بفدية مقدارها نحو 1250 دولاراً عن كل رأس. غير أن مطالبها هذه المرة لم تقتصر على الأموال، وإنما ألحقت بها شروطاً تعجيزية من باب إبعاد تهمة اللصوصية عن نفسها والظهور بمظهر الحركة المنافحة عن الإسلام والمسلمين. حيث تضمنت شروطها الإفراج عن عدد من أنصارها من مسلمي الجنوب الفلبيني المعتقلين، ومنع الكنائس الفلبينية في المقاطعات الجنوبية ذات الأغلبية المسلمة من رفع الصليب على أبنيتها ومقابرها، إضافة إلى ما فضح ارتباطها بشبكات الإرهاب الأصولية ألا وهو مطلب إطلاق سراح الشيخ المصري عمر عبدالرحمن والإرهابي رمزي يوسف وغيرهما من القابعين في السجون الأميركية على خلفية قضية تفجير مركز التجارة العالمي في نيويورك في عام 1993.

وعلى عكس ما توقعه quot;القذافي جانجلانيquot; الذي خطط للعملية وقادها بنفسه، رد مسلمو الجنوب الفلبيني، ممن ضاقوا ذرعاً بأعمال هذه الفئة المُشينة، باحتجاز زوجته الصغيرة ووالدته العجوز ونفر من أقاربه، مع التهديد بقتلهم إنْ لم يبادر إلى إطلاق سراح كل الرهائن دون قيد أو شرط، الأمر الذي ساهم في تحرير المخطوفين تباعاً.

غير أن هذه النكسة لم تحل دون معاودة quot;القذافيquot; ارتكاب الحماقات مرة أخرى. ففي أبريل 2000 قام رجاله بقيادة المدعو quot;غالب اندانغ مجيبquot; صاحب النظارات الداكنة والكوفية الشبيهة بكوفيات أفراد المقاومة الفلسطينية باختطاف 21 بريئاً من رعايا ألمانيا وفرنسا وماليزيا وفنلندا وجنوب أفريقيا ولبنان من منتجع سياحي في جزيرة quot;سيبادانquot; الماليزية، وهي العملية التي انتهت بفضل وساطة طرابلس الغرب وفدية مالية لا يعرف مقدارها دفعتها quot;مؤسسة القذافي الليبية للأعمال الخيريةquot;، ونجحت هذه الوساطة في إنقاذ أرواح المخطوفين وإعادتهم إلى بلادهم سالمين.

فمن بعد سنوات قضاها كطالب في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة وقبل أن يذهب كغيره من المتحمسين إلى أفغانستان للجهاد ضد السوفييت، عاش المدعو quot;عبدالرزاق أبوبكر جانجلانيquot; فترة في ليبيا حيث أعجب بسياسات قائدها إلى الحد الذي دفعه إلى إطلاق اسم الأخير على شقيقه الأصغر، خاصة وأن ليبيا كانت وقتذاك تقف إلى جانب الحركة الاستقلالية لمسلمي جنوب الفلبين ضمن سياساتها في دعم كل التنظيمات المعادية للإمبريالية الغربية والأميركية من سومطرة إلى أيرلندا الشمالية إلى نيكاراجوا. هذا ناهيك عن محاولاتها لإيجاد حل سلمي لقضية مسلمي الفلبين عبر ترتيب مفاوضات ما بين ممثلي هؤلاء ونظام الديكتاتور quot;فرديناند ماركوسquot; في مانيلا، على نحو ما حدث في اتفاقية طرابلس الغرب الفاشلة للسلام في عام 1976.

وفي عام 1991 قرر quot;عبدالرزاق جانجلانيquot;، كغيره من الأجانب المشاركين في الجهاد الأفغاني أن يعود إلى وطنه للجهاد ضد سلطاتها

quot;الكافرةquot;. وهكذا أسس الرجلquot;جماعة أبي سيافquot; مستوحياً اسمها من الاسم الحركي الذي عرف به في صفوف المجاهدين الأفغان والعرب، ومتطلعاً بدعم مالي كبير من أسامة بن لادن إلى الحلول مكان الجبهتين اللتين كانتا تمثلان وقتذاك مسلمي الفلبين. فالرجل الذي عاد مشبعاً بأفكار الجهاد والصحوة الإسلامية المتشددة ومنتشياً بالانتصار المزعوم ضد السوفييت الملحدين، لم يستسغ العمل ضمن الحركتين الموجودتين على الساحة: جبهة تحرير مورو الوطنية بقيادة quot;نور ميسواريquot; أستاذ الفلسفة الآسيوية في جامعة الفلبين والناشط السابق في حركة الشبيبة الماركسية المقاومة لنظام ماركوس، وجبهة تحرير مورو الإسلامية بقيادة quot;سلامات هاشمquot; الأزهري القريب من فكر جماعة quot;الإخوان المسلمينquot; والمنشق عن الجبهة الأولى على خلفية اعتراضه على قبولها بمبدأ الحكم الذاتي للجنوب الفلبيني بدلاً من الدولة الإسلامية المنفصلة.

لكن quot;جانجلانيquot; المؤسس لم يعش طويلاً. إذ قُتل عن 39 عاماً في معركة مع الجيش الفلبيني في جزيرة quot;باسيلانquot; في 1998، ليخلفه في الزعامة شقيقه quot;قذافيquot; الذي كان قد هرب من معتقله في مانيلا في عام 1995، ولتبدأ حقبة جديدة في تاريخ هذه الجماعة الإرهابية تميزت بالتركيز على أعمال الخطف والابتزاز واحتجاز الرهائن كوسيلة للارتزاق وجمع المال، لاسيما بعد أن انقطعت عنها المساعدات الخارجية من بن لادن تحديداً. تلك المساعدات التي كشف عن تفاصيلها quot;بشير حجامquot; أحد رموز الجماعة ممن استسلموا للجيش الفلبيني في عام 2000.