فالح عبد الجبار


يحلو للمؤرخين أن يحددوا في اللحظة الحاضرة ما يشتهون أن يغدو في المستقبل مفترق طرق أو منعطفاً تاريخياً. بهذه الصورة ينظرون الى واقعة شنق الرئيس العراقي، صدام حسين، فجر الثلاثين من كانون الأول (ديسمبر) الفائت. فهل يدشن هذا الشنق حقبة جديدة حقاً؟ لا أظن.

لقد كان الرئيس المشنوق، منذ اختبائه في الحفرة الشهيرة، قد انتهى، عند جل العراقيين، مادة ورمزاً، مثلما استمر، عند جل أنصاره (وأغلبهم من غير عرب العراق)، مادة ورمزاً. قبل ذلك كانت الدولة العراقية التي تراكمت مداميكها المدنية والقانونية تتفسخ، عائدة الى عالم الغاب.

وكان أبناء جيلي، الذين انتظروا في المنافي ثلاثة عقود، يتمنون أن تنهض الطبقات الوسطى من كبوتها، لكي تعيد بناء الدولة المدنية، فإذا بهذه الطبقات تنقلب، من الوطنية العراقية الى ايديولوجيا الطوائف، غارقة في غواية توزيع المغانم. نسينا ان دولتنا المدنية دولة نفطية، وان الغنائم أهم من الشرائع. ونسينا أيضاً أن الجماعات الواعدة، بحكم اعتمادها التعليم الحديث، ونمط الحياة الحضري، اكتسبت الكثير من رثاثة حكامها القرويين، السابقين، وعلى رأسهم الديكتاتور السابق، مثلما رضخت لطوفان الفقر الريفي المهاجر.

تتجلى هذه الرثاثة في كل زوايا حياتنا المجتمعية الآن، ولعل أبلغ صور تجليها سير محاكمة الرئيس المخلوع. كان يفترض بهذه المرافعات أن تكون مدخلاً للتطهير الأخلاقي، من القبول السلبي بحق الحكم الجزائي، والتطهر الأخلاقي من الفكرة السامة، القائلة إن laquo;القانون إرادة الحاكمraquo;، هذه الحكمة المزيفة التي غرزها المداحون في عقل المستبد، ليكسبوا رضاه وذهبه الرنان، سيان عندهم إن انهارت أسس المدنية أم لا.

كان بالوسع البدء بمحاكمة المستبد على سلسلة من انتهاكات فظة لا للقانون البشري فحسب، بل لقانونه بالذات، ولا للدستور الإنساني، بل لدستوره التوتاليتاري بالتحديد.

كان اختيار قضية الدجيل اختياراً حزبياً، فالكل يعلم ان محاولة الاغتيال دبرت من حزب الدعوة، وان رئيس الوزراء الانتقالي، ابراهيم الاشيقر المكنّى بالجعفري، هو رئيس هذا الحزب. هذا التداخل بين البعد القانوني والبعد الحزبي أفقد سير المرافعات الكثير من وهجها القانوني، وأسبغ عليها، كما لاحظ الكثيرون، طابع انتقام شخصي، أو حزبي. كانت المرافعات بليدة، مملة، بل تحولت، في أحيان، الى ما يشبه السيرك. وكان المستبد هو وأخوه نصف الشقيق، برزان، في مقدم المهرجين. وشاهدنا، في ما يشبه كوميديا الحانات الليلية، برزان بملابسه الداخلية، جالساً في قفص الاتهام، مديراً ظهره الى هيئة رئاسة المحكمة في laquo;زعلraquo; ظاهر. وألقى الرئيس المخلوع المتهم خطباً عصماء عن الوطنية، والصمود! وحين بدأت مرافعات المحكمة الثانية عن الأنفال تكتسب شيئاً من اللياقة، والدقة القانونية، وتضع الأصبع على تفاصيل الإبادة، قُطعت قطعاً فجائياً بتنفيذ حكم الإعدام.

ان اختيار قضية الدجيل، وقطع سير قضية الأنفال، كشفا للعالم عن رغبة الحكومة (الحالية والسابقة) في تسييس قضية قانونية تسييساً مدمراً.

كان ينبغي البدء بقضية لا تولد الانطباع بوجود نزعات ثأر حزبية أو مذهبية. وكان ينبغي الاستمرار في المحاكمات لكشف المستور، في قضايا تصفية البعثيين واليساريين والليبراليين والإسلاميين السنّة، فالأكراد، فالإسلاميين الشيعة. وهلّم جرا. لكن التسييس انتصر. وقد بلغ تسييس القضية أقصى حد له في قرار الإسراع بتنفيذ الحكم، وتوقيت هذا التنفيذ.

بعد صدور الحكم على الرئيس السابق غرقت بغداد بنوعين من الشائعات والدعوات. فمن جهة كان بعض خطباء ووعاظ المنابر الشيعية يحذرون من صفقة في الخفاء لإخلاء سبيل الرئيس المخلوع، مقابل إيقاف العنف. من جهة أخرى، كان خطباء ووعاظ آخرون يصفون المحاكمة وقرار الإعدام بأنه أكبر إنجاز لحكومة المالكي. واختارت حكومة المالكي، كما يبدو، أن تسلك طريق انتصار السياسة على القانون. فالرغبة في تعزيز الشعبية المتآكلة لوزارة المالكي طغت على كل الضرورات الأخرى.

لعل قرار الإعدام حقق بعض المطامح السياسية، بكسب رضا قطاعات كبيرة من القوى المجتمعية العراقية. لكن هذا laquo;النصرraquo; السياسي، اقترن، والحق يقال، بهزيمة أخلاقية. فتوقيت الإعدام، مثلاً، كان وسيظل موضع نقد واستفظاع، باعتباره انتهاكاً لرمز مقدس، هو عيد الأضحى، الذي اعتادت فيه الثقافة العربية ndash; الإسلامية أن يكون مناسبة للمراحم أو الغفران، لا أن يكون موعد تنفيذ. وبالفعل تعترض قطاعات واسعة ليس على شنق الرئيس المدان، بل على تنفيذ الشنق في هذا اليوم بالذات.

كما أن الهتافات والبذاءات التي رافقت التنفيذ، بل التسلي بالتقاط الصور لبئر منصة الإعدام، زادت من فجاجة التوقيت، وحولت سير التنفيذ من قضية إجرائية قانونية، الى ما يشبه حفلة غوغاء في الشنق العشوائي، الذي يسميه فقهاء القانون Lynching، أي الإعدام اللاقانوني كنا نريد للمحاكمة أن تكون مرافعة قانونية عن طراز رفيع، فتحولت الى ثرثرات سقيمة، وكنا نريد كشف المزيد، فانقطع المسار نزولاً عند رغائب بعض الساسة، وكنا نريد احتراماً للقانون حتى آخر لحظة، فانفلتت الغرائز الدنيا بلا عائق.

خلاصة ذلك انتصار سياسي وهزيمة أخلاقية. بل ان الانتصار السياسي مشكوك فيه. فلعل الواقعة عززت مواقع رئيس الوزراء المالكي، خصوصاً عند خصومة الصدريين. لكن المالكي، كما يفترض، هو رئيس وزراء كل العراقيين، وليس حزباً منهم، مهما بلغ شأن هذا الحزب.

يواجه المالكي الملف الأمني، المزعزع، ويواجه ملف الخدمات، ويواجه ملف تعديل الدستور، وهي ملفات ترتكز على، وتتأثر بالملف الأكبر: المصالحة الوطنية.

في التزويق الإعلامي تبدو كلمة المصالحة الوطنية عائمة، بل غامضة، أما في الواقع العملي، فيعرف الكل أنها تعني قوى محددة على الأرض جلها تنحدر من حزب البعث السابق، هذا الحزب الذي تبعثرت منظماته أشلاء. لقد بلغ هذا الحزب قرابة مليون وثمانمائة ألف عضو ومؤازر، فأين تبخر؟ قامت الأحزاب الإسلامية، وبخاصة على الجانب الشيعي، بامتصاص بعض هذه القواعد. لكن اللب الايديولوجي ndash; القرابي بقي متماسكاً، وهو يقف في مقدمة جبهة العنف. وأي حديث جاد عن المصالحة الوطنية من دون أخذ هذه القوة في الحسبان سيظل محض حديث.

كان ينبغي ارجاء توقيت التنفيذ، وترك قضية القانون تأخذ مجراها، وتترسخ، من دون أن تقطع المسارات السياسية الأساسية طمعاً في كسب موقت.

والهزيمة القانونية، التي سميتها هنا بالهزيمة الأخلاقية، تعني ان العراق لم يدشن بعد أية حقبة جديدة. فهناك قدر من الاستمرار في فكرة الرثاثة وفكرة اللاقانون، وهي دوماً تثمر نقيضها. فبدل أن يكون الرئيس المشنوق خارق قانون، بات الآن ضحية في نظر العالم المحيط.