د. فيصل القاسم


وكأن ما فعله المجرمان quot;التاريخيانquot; البريطاني مارك سايكس والفرنسي فرانسوا جورج بيكو عام 1916 من تقطيع لأوصال العالم العربي وتحويله إلى دويلات ومقاطعات ومحميات وأشباه دول ومزارع وكانتونات، وكأنه كان الجولة الأولى من عدة جولات قادمة أخطر وأعتى لتقطيع المقطــّع وتجزئة المجزأ وتقسيم المقسّم، مع الاعتراف بأن المسيو بيكو والمستر سايكس كانا، في اتفاقية quot;سايكس-بيكوquot; سيئة الصيت، أكثر رأفة بنا من سليليهما جورج بوش وطوني بلير وحكام إسرائيل، فعلى الأقل لم يقسّما المنطقة على أسس طائفية ومذهبية وعرقية ودينية، فتعايشت الطوائف والمذاهب والأعراق والأديان في الكيانات العربية المصطنعة الناشئة دون نزاعات تذكر، باستثناء الكيان اللبناني الذي خرج على السرب منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي ليخوض حرباً أهلية ذات طابع طائفي بغيض. أما ما عدا ذلك، فقد سمت مكونات المجتمعات العربية فوق تمايزاتها الطائفية والمذهبية والعرقية لردح طويل من الزمن، حتى فكر جورج بوش وطوني بلير وربيبتهما إسرائيل بشن الجولة الثانية من شرذمة المنطقة طائفياً هذه المرة. ففي الوقت الذي تتشدق فيه أمريكا بضرورة صهر العالم في قرية كونية واحدة في إطار العولمة، فهي ما لبثت تقسم أوطاننا على أسس طائفية ومذهبية جاهلية.

كما هو واضح الآن لكل من يمتلك ذرة وعي سياسي فإن السيناريو الجديد يتمثل في إحياء العداوات التاريخية بين شعوب المنطقة وإلباسها ثوباً دينياً وطائفياً ومذهبياً صارخاً، مع العلم أن جل الخلافات والاختلافات بين الطوائف والمذاهب كانت وما زالت سياسية بامتياز مهما حاول البعض إلباسها رداء عقدياً.

لقد بدأت عملية تطويف المنطقة من العراق، حيث كان الأمريكيون يتعاملون مع أفراد المعارضة العراقية السابقة على أساس طائفي بحت تحضيراً لتنفيذ المخطط بعد الغزو. وقد اشتكى المفكر العراقي غسان العطية من تعامل الأمريكيين معهم على أساس شيعي وسني اثناء مؤتمرات المعارضة التي كانت ترعاها واشنطن في أمريكا وأوروبا قبل احتلال العراق. وقد عمل المحتل منذ اللحظة الأولى بعد الغزو على دق الأسافين بين الشيعة والسنة، مع العلم أن العراقيين عاشوا مئات السنين دون أن يعرفوا من هو السني ومن هو الشيعي بينهم. فلماذا أصبحوا يقتلون بعضهم البعض على الهوية بعد الاحتلال؟ وقد بانت النوايا الأمريكية التطويفية على حقيقتها من خلال ما سُمي وقتها بـquot;مجلس الحكمquot; سيىء الصيت الذي قام على توزيع طائفي بغيض.

وليتهم اكتفوا بفدرلة العراق على خطورتها، بل راحوا يذكون نار الفتنة الطائفية بطريقة حقيرة للغاية، حيث سيكون العراق، فيما لو نجحت الفدرلة، أول نظام فيدرالي غريب في التاريخ الحديث يقوم على أسس طائفية. بعبارة أخرى فإنه قد تلبنن. وليس من المستبعد أن تكون دول عربية عديدة في طريقها إلى اللبننة، بحيث يصبح المثال اللبناني هو المعمول به عربياً، خاصة وأن الكثير من البلدان العربية يزخر بالطوائف والعقائد التي يمكن وضعها في مواجهة بعضها البعض بسهولة كبرى.

ومن المؤسف جداً أن بعض الدول العربية تساعد أمريكا بشكل مفضوح في هندسة مشاريع التفتيت الطائفية الجديدة ووضعها موضع التنفيذ. فهذا يتحدث عن quot;هلال شيعيquot; بهدف تحريك النوازع الطائفية الكامنة لدى شعوب المنطقة، وذاك يتهم بعض الطوائف بأنها موالية لجهات غير عربية كي يستثير الطوائف الأخرى ضدها، وذاك يعلن عن دعمه لطائفة معينة في العراق لإذكاء نار الطائفية المستعرة، مع العلم أن معظم الدول العربية التي تلعب بنار الطائفية مهددة بنفس النزاعات الدينية والمذهبية فيما لو أرادت أمريكا وإسرائيل تحريكها. فالكثير من البلدان العربية يمكن أن تتحول إلى عراق أو لبنان آخر، كبر أو صغر.

ولا أدري كيف تقبل بعض الأنظمة العربية أن تكون مجرد أدوات للتفتيت وزرع الفرقة المذهبية والطائفية بين شعوب المنطقة، ففي الماضي قبل البعض بأن يسخــّر الدين في مواجهة الحركتين القومية العربية واليسارية بتوجيهات أمريكية لا تخفى على أحد، خدمة للمشاريع الغربية الاستعمارية في المنطقة ومحاربة السوفييت، واليوم لا تمانع نفس الجهات أن تلعب أدواراً جديدة أخطر وأدهى في إحياء الشقاق والفرقة بين مكونات المنطقة الدينية والعقدية، بعد انتهاء خطر الحركتين الشيوعية والقومية. بعبارة أخرى يبدو أنه مطلوب من العالم العربي أن لا يتوحد أبداً، وأن يكون في حالة تشرذم وتصارع دائمين، مرة باسم الصراع بين الإسلاميين والقوميين واليساريين، والآن باسم العداء التاريخي بين العرب والفرس، أو السنة والشيعة. ولا أدري إلى متى تبقى هذه المنطقة عرضة للتركيب والتفكيك عند الحاجة خدمة للمخططات والأطماع الاستعمارية في العالم العربي. ولا أدري إلى متى تبقى بعض الأنظمة العربية أدوات في عملية تجزئة المنطقة وتقطيع أوصالها.

لكن ذلك لا يعني أن الطرف الآخر بريء من تهمة التحريض الطائفي والتوسع باسمه، كما هو حاصل في العراق، حيث تعمل إيران على تجريد بلاد الرافدين من هويتها العربية وتطويفها لصالح توجهاتها المذهبية والقومية العنصرية،مما يضعها في حالة صراع مذهبي وقومي مكشوف مع العرب والطوائف الأخرى، خاصة وأنها أيضاً، كنظرائها العرب، لا تضع من جانبها حداً لناشري البغضاء الطائفية والمحرضين على الطوائف الأخرى، لا بل أطلقت العنان لـquot;فرق الموتquot; وquot;فيالق الغدرquot; في ربوع العراق الجريح كي تنشر القتل والدمار والإرهاب على الهوية. بعبارة أخرى قبل أن نلوم الأمريكيين الذين يعملون جاهدين لتفتيت المنطقة على أسس طائفية وعقدية ومذهبية، لا بد أن نلوم بعض حكومات الشرق الأوسط التي، إما أنها متورطة في اللعبة الأمريكية برضاها، أو أنها لا تدرك أبعاد المخطط التطويفي الخطير الذي قد تصبح مؤامرة quot;سايكس بيكوquot; بالمقارنة معه، مجرد quot;لعب عيالquot; لما ينطوي عليه من خطورة بالغة قد تحرق المنطقة وتعيدها إلى عصر ملوك الطوائف، بحيث قد نتحسر على أيام القــُطرية التي أمضينا ردحاً طويلاً في محاربتها وذمها.

وأرجو أن لا يعتقد أتباع أي من الطوائف والمذاهب الإسلامية أن أمريكا تساند الواحدة ضد الأخرى من أجل سواد عيونها، إنما تفعل ذلك لضرب المسلمين بعضهم ببعض من أجل أهدافها الاستعمارية الخاصة. فواشنطن لم تأمر حكومة المالكي العراقية بإعدام الرئيس العراقي الراحل صدام حسين في أول أيام عيد الأضحى المبارك إرضاء للشيعة وكيداً للسنة، بقدر ما تريد دق إسفين بين الشيعة والسنة وجعلهم يذبحون بعضهم على الهوية لزمن طويل، بينما تكون هي في تلك الأثناء تحقق أطماعها في المنطقة.

لا أدري لماذا لا تتعلم الأنظمة العربية من الحكومات الغربية ذاتها التي تحرّم أي مساس بالوحدة الطائفية والمذهبية للبلاد، وتضع قوانين صارمة لكل من تسول له نفسه العبث بالنسيج العقدي لتلك البلدان. ولعلنا نتذكر أن رئيس حزب المحافظين في بريطانيا أمر ذات مرة بطرد وزيرة من حكومته على الفور بعد تفوهها بنكتة فـُسرت وقتها على أنها تسيء للجالية الباكستانية في بريطانيا. لهذا لا أدري لماذا يعتبر الغربيون وحدتهم مقدسة بينما وحدتنا مدنسة. لاحظوا الفرق بين الحكام الغربيين الذين يسنون قوانين قراقوشية لمعاقبة العابثين بالتركيبة العرقية والطائفية في بلدانهم وبين بعض الزعماء العرب الذين يقودون حملة التحريض الطائفي بأنفسهم، ويذكون نارها بتصريحاتهم الطائفية اللامسؤولة، ناهيك عن تركهم الحبل على الغارب لشيوخ الفتن الطائفية والمذهبية كي يعيثوا خراباً وفساداً في نسيج هذه الأمة المتبعثرة!

لكن من سخرية القدر أن بعض الحكومات العربية التي دخلت اللعبة الطائفية لا تفعل ذلك دائماً للدفاع عن الطوائف التي تنتمي إليها، بل لإرضاء أهداف أمريكية محددة، بدليل أن بعض الحكومات لم تتردد قبل فترة في دعم الحكومة العراقية المختلفة معها مذهبياً بالغالي والرخيص، ومد السجاد الأحمر تحت أقدام رئيس وزرائها نوري المالكي تنفيذاً لأوامر أمريكية، هذا في الوقت الذي تعادي تلك الحكومات حزب الله وتحرض إسرائيل عليه بدوافع مذهبية، مع العلم أنه ينتمي إلى نفس طائفة عبد العزيز الحكيم والمالكي المرحب بها عربياً. لكن ما أن بدأت الاستراتيجية الأمريكية تتخذ موقفاً مختلفاًً تجاه الطائفة التي تنتمي إليها الحكومة العراقية حتى راحت بعض الدول العربية تستقبل بحفاوة بالغة خصمها الرئيسي في العراق، ألا وهو رئيس هيئة علماء المسلمين، وتتعهد بدعم السنة هناك، وذلك بعد قطيعة معه مفروضة أمريكياً دامت سنوات. ولم يعد يخفى على أحد كيف تستغل واشنطن بعض حلفائها العرب في معركتها مع إيران، وعلى أساس مذهبي مفضوح!! فبينما كان الصراع في السابق بين الإسلاميين والقوميين أصبح الآن بين طوائف ومذاهب إسلامية. وكله لخدمة المشروع الأمريكي وتنفيذاً لخطة quot;فرق تسدquot;.

وفي حال انعدام التركيبة الطائفية والمذهبية في بعض الدول العربية فإن المخطط الاستعماري الجديد يلجأ، خدمة لمصالحه، إلى التجزئة العرقية، كما هو حاصل في السودان، فبما أن سكان إقليم دارفور مسلمون حافظون للقرآن، كسكان الشمال، فإنه يصعب شرذمتهم وفصلهم عن السودان على أسس طائفية وعقدية، وبالتالي يلجأ السايكسبيكيون الجدد إلى التجزئة العرقية، فيتم تحريض سكان دارفور على الانفصال بحجة أنهم لا ينتمون إلى العرق العربي، وبأنهم عرق أفريقي خالص، وبالتالي يجب أن ينتموا إلى أفريقيا، لا إلى العالم العربي الذي ينتمي إليه قاطنو شمال السودان، مع العلم طبعاً أن القوى الاستعمارية ذاتها حاولت وما زالت تحاول فصل جنوب السودان عن شماله على أسس عقدية، بحجة أن الجنوب مسيحي والشمال مسلم.

متى تعي شعوبنا وحكامنا أن أمريكا وبريطانيا وإسرائيل تخطط، بقدر كبير من الاستمتاع، لاثارة النزعات الطائفية في دائرة الحضارة العربية والإسلامية ليسهل عليها فرض السيادة والهيمنة الى أمد طويل بهدف تقسيم هذه المنطقة الحيوية من العالم الى دويلات طائفية ضعيفة، وليكون الكيان quot;اليهوديquot; الصهيوني أقواها نفوذاً وجبروتاً، إن لم نقل ملك الطوائف المتوج؟

الكلمات الختامية التالية للشاعر مجيد البرغوثي موجهة إلى الذين لا يرون الأمة كلها، بل يرونها أعراقا وطوائف ومذاهب متناحرة يسيطر عليها أعداء يسهل دحرهم وردهم على أعقابهم لو كانت أمتنا واحدة موحدة:

يا جندَ الشيعةِ والسنَّة

للهِ الحمدُ.. وللهِ المِنَّة

أعداءُ مُحمّد هُم أعداءُ عليّ

وأمامكمُ الأعداء

ووراءكمُ الفِتنة

من ينظرْ يومَ الزحفِ الى الخلف

ستباغتهُ نيران القصف

وتباغتهُ الطعنة

تِلوَ الطعنة

أحقاد الأمس توَلّت كالأمس

واليومَ أمامكمُ المِحنة

وأعاديكم في قلب أراضيكم..

وقنابلهم.. كمدافعهم

لا تعرف فرقا بين الشيعة والسنة

فلتتحدوا!

كلمات التوحيد لدينا واحدة

لا يبقى الا توحيد الكلمات وتوحيد اللكمات

فأمام العين غزاة أجلافٌ وطغاةْ

وحياة وممات..

رُدوا ما أنتم مختلفون عليهِ وفيهِ إلى الله

فإذا لم تتحدوا.. فأعاديكم فيكم

لا يُخرجُهم أحدٌ

لا يهزمُهم أحد إلا الله

من منكم يقتلْ صاحبَهُ

ستحلّ عليهِ اللعنة

فلتتحدوا.. ما دمتم ثواراً.. أحراراً

ترجونَ النصرَ.. أو الجنَّة

يا جند الشيعة والسنة.