الصادق المهدي


الشهيد قتيل يشهد لدين الله بالحق أنه قتيل في سبيل الله. الشهيد يموت حسيا، ولكنه يحيا روحيا: (وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ) (البقرة: 154). ومجازا استخدمت العبارة لوصف كل من مات في سبيل مصلحة عامة إذ أنه يموت حسيا ويحيا معنويا.

الرئيس العراقي السابق صدام حسين ارتكب أثناء حكمه من الآثام ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة:

* اعتلى السلطة بالقوة الغاشمة الانقلابية.

* قتل منافسيه من قادة حزبه ومن لم يطاوعه من أفراد أسرته وخصومه من آل الصدر وآل الحكيم وغيرهم قتلا عدوانيا ظالما.

* شن حربا عدوانية على إيران أزهقت مئات الالآف من البشر وأتلفت بلايين الأموال.

* شن حربا احتلالية على الكويت وضمها لبلاده بالقوة الباطشة. * بطش بالمتمردين على حكمه من الشيعة بالجنوب ومن الأكراد بالشمال بعنف لم يراع إلاً ولا ذمة.

وهذا كاف لإدانته وإعدامه بحكم الشرع الإسلامي أو القانون الوضعي الإنساني.

ولكن السياسة الشرعية، والحكمة الإنسانية توجبان ألا تكون الأحكام عمياء. بل تأخذ بحسبانها كافة العوامل المعنية لكيلا تهزم الأحكام مقاصدها في تحقيق العدالة. فكل أمر يأتي بنقيض مقاصده باطل.

منذ سقوط نظام صدام قبل ثلاث سنوات استجدت سبعة حقائق غيرت الخرائط السياسية والأخلاقية، والدبلوماسية ولا يمكن تجاوز آثارها:

أولا: كان الغزو الأمريكي الذي أسقط النظام العراقي منافيا للقانون الدولي. واتضح أن السببين المبررين له باطلان: فلم يعثر على أسلحة دمار شامل في العراق، ولا على دلائل لعلاقة بتنظيم القاعدة، كما زعم الغزاة.

ثانيا: ارتكبت حكومة الاحتلال، والحكومات التي نشأت في ظله جرائم ضد الإنسانية طمست معالم الفرق الأخلاقي بين النظام المباد والنظام المبيد. ومع أن الشعب العراقي مارس قدرا من الحريات اللبرالية فإنه شهد ترديا فظيعا في الأمن وتهديدا حقيقيا لوحدته الوطنية.

ثالثا: الغزاة لم يخططوا تماما لليوم التالي للاحتلال واندفعوا في ما سموه اجتثاث البعث وحل القوات المسلحة بصورة ساهمت في نشر الفوضى بالبلاد وغذتها بعناصر ملتهبة.

رابعا: سياسات الحكومات في ظل الاحتلال لم تراع الوحدة الوطنية بل خلقت استقطابا طائفيا وإثنيا حادا، وغذت مخاوف طائفية واثنية في دول الجوار.

خامسا: إجراءات المحاكمة تأرجحت بين مراعاة ضوابط العدالة من الناحية الفنية البحتة، وبين الطابع السياسي الثأري للمحاكمة، وبالنهاية صارت مهزلة قانونية غير صالحة كأداة لتحقيق العدالة: لأنها لم تمنح الدفاع حقه القانوني المعهود، ولم تكن محكمة مستقلة بالمقاييس المعهودة.

سادسا: الطريقة الأحادية التي اتسم بها موقف الولايات المتحدة وحلفائها خلقت استقطابا دوليا مضادا يدين الموقف الأمريكي ويتطلع للالتزام بالقانون الدولي وبالنهج التعددي في إدارة الأزمات.

سابعا: تماسك الرئيس العراقي السابق وزملائه في مواجهة المحنة حول تلك التطورات السلبية إلى دعائم ايجابية لصالحه تجسدها مواقفه. فتحول على يد ولاة الأمر من مذنب تجب محاكمته إلى ضحية يجب إنصافها.

ثم جاء تنفيذ الإعدام بالطريقة التي تمت ونقل المحكوم عليه من يد قوات الاحتلال إلى أيد عراقية، تم أخذه حاسر الرأس ويحيط به جلادون ملثمون، ويشاهده خصوم سياسيون وطائفيون يهتفون ضده بصورة توحي لكل من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد بأن المنظر ثأري وليس عداليا.

لو أن كاتب سيناريو ومخرج اتفقا على تقديم مشهد يغسل مجرما من ذنوبه ويجعله في نظر أغلبية المشاهدين بطلا لما استطاعا التفوق على ما فعله منفذو إعدام صدام.

وتصديقا لما أقول:

انطلقت ردود فعل إنسانية على نطاق واسع يقودها الاتحاد الأوربي، والقيادات الكنسية في الغرب، ومنظمات حقوق الإنسان تستنكر المشهد.

رد فعل سياسي عربي عززه الترحيب الأمريكي الإسرائيلي مما استفز الرأي العام العربي بصورة حادة.

استقطاب طائفي حاد بين مواقف كثير من أهل السنة المستنكرين لما حدث، وكثير من الشيعة المرحبين في دوامة من شأنها نكء كل الجراحات التاريخية.

أنا أعتبر نفسي من ألد خصوم الرئيس العراقي السابق:

* هاجمته بعنف عندما أعدم العالم الإسلامي العظيم محمد باقر الصدر وأخته.

وحملته مسئولية اغتيال السيد الحكيم بالخرطوم.

* وأدنت اعتداءه على إيران في مقابلة ساخنة بيننا في بغداد عام 1987م.

* وأدنت احتلاله للكويت وتخريبه للنظام الأمني العربي.

ورغم إدانتي المعلنة والمتكررة للغزو الأمريكي للعراق، اتخذت موقفا إيجابيا من الحكم الجديد في العراق ليتطور باتجاه ديمقراطي ويخلص العراق من الاحتلال ويحقق الوحدة الوطنية. وفي 21/11/2005م التقيت رئيس الوزراء العراقي إبراهيم الجعفري في القاهرة مناصحا في ذلك الاتجاه. ومع اعترافي بعيوب الانتخابات التي أجريت بالعراق أعلنت تأييدي لها باعتبارها أهون الشرين.

ولكن موقفي من صدام ومن النظام العراقي البديل اهتز بشدة أمام ما طبقه ولاة الأمر من أمريكيين وعراقيين على الرئيس العراقي السابق.

إن العراق في حاجة شديدة للحرية وللتخلص من الطغيان ولكنه في ظرفه الحالي بحاجة ماسة للوحدة والأمن. إن ما جرى لصدام حسين سوف يؤثر سلبا على الوحدة والأمن.

أما أن يتم التنفيذ بالصورة التي نشرت على الكافة وفي يوم عيد الأضحى المبارك فظلمات بعضها فوق بعض، استفزت مشاعر كثير من المسلمين، وكثير من العرب، بل أثارت الرفض والاشمئزاز على صعيد إنساني عام.

نعم كان فيما حدث إشباع لمشاعر بعض ضحايا صدام، ولكن لا أعتقد أن احدا منهم سيجد نفسه رابحا في نهاية المطاف لأن ما سيحدث من فرقة وفتنة (لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً) الأنفال: 25).

الرابح الوحيد من هذا المشهد هو إسرائيل التي تعد نفسها لمركز هيمنة في المنطقة تناله بدورها كرأس رمح للهيمنة الأمريكية وتحققه بتمزق المنطقة ثقافيا وإثنيا. هذا خيار قصير النظر وقد شجبه المفكر اليهودي النابغة إزايا برلين بقوله: إن إسرائيل سوف تندفع منتصرة نحو الهاوية!. ولكن الخيار الراشد أمام إسرائيل هو إدراكها لحقيقة الحيوية الحضارية لأهل المنطقة واستعدادها لتصالح حقيقي معهم يكفل وجود وطن عبري متكامل حضاريا ومصلحيا مع أهلها.

هذا الخيار العادل المعقول سيفرض نفسه عندما تتحقق ثلاثة شروط أراها قادمة:

الأول: عودة الأمة من حالة التيه التي تشلها حاليا.

الثاني: تتحرر أمريكا من قبضة المحافظين الجدد وإقامتها لعلاقاتها الدولية على أساس عقلاني وعادل.

الثالث: إدراك سكان إسرائيل أن مشروع الهيمنة هو مشروع انتحار فلا سلام بلا عدالة.