علي بن طلال الجهني

في وقت انشغال عدد كبير من قادة الرأي والفكر في العالم أجمع بكتاب الرئيس الأميركي التاسع والثلاثين - جيمي كارتر - عن ظلم إسرائيل وعقابها الجماعي للفلسطينيين بإقامة الجدار الحاجز، ابن عم laquo;جدار برلينraquo; الذي أقامه أكثر الأنظمة الشيوعية قمعاً واستبداداً بين شرق برلين وغربها، في الوقت ذاته الذي كان يجب تسخيره لمؤازرة جهود الرئيس كارتر، يُعقد في طهران مؤتمر لإنكار أو على الأقل التشكيك في ثبوت laquo;المحرقة النازيةraquo;. وقبل محاولة الإجابة عن: من المستفيد من عقد مثل هذا المؤتمر، ينبغي إعطاء نبذة مختصرة جداً عن نشوء العنصرية الأوروبية التي وصلت إلى أعلى مستوياتها خلال الحروب الصليبية لأسباب دينية، وخلال تعاظم استكبار وطغيان النازية والفاشية بعد الحرب الكونية الثانية.

كتب عزمي بشارة في هذه الصفحة يوم الخميس 14-12-2006، ان تاريخ اللاسامية الأوروبية laquo;يعود إلى القرون الوسطى، والحملات الصليبية التي هاجمت بلدات يهودية في وسط أوروبا في طريقها إلى فلسطين، والتي جمعت في نفيها الديني بين اليهود والمسلمين في الأندلس، وشكلت جزءاً من هوية أوروبا ضد المحدد الخارجي للهوية، أي المسلمين، والمحدد الداخلي المتمثل في اليهود.

وقد حملت الرغبة النازية الشمولية الاستحواذية في إبادة اليهود، إضافة إلى هذا كله، عناصر حداثية من الهندسة الاجتماعية الشمولية، وعناصر من علوم البيولوجيا المكتشفة حديثاً مطبقة على المجتمع، وعناصر من الداروينية الاجتماعية، ونظريات اشتراكية شعبوية رومانسية معادية للشيوعية والاشتراكية الديموقراطية والليبرالية على حد سواء، باعتبارها غريبة عن (روح الشعب)raquo;. ويتابع: laquo;ولم يكن هذا النوع من الإبادة الجماعية ممكناً من دون فصل بين الموظف البيروقراطي والفرد الخاص، وبين المهمة أو تنفيذ الأوامر والرأي الشخصي. وجميعها من مميزات الإدارة في جهاز الدولة الحديثة، كما لم يكن هذا ممكناً من دون التوثيق والتسجيل والإحصاء والأرشفة، وكلها من مميزات الدولة الحديثة. والمفارقة أن علوم التصنيف والأرشفة والتوثيق الاستحواذي لأسماء وعناوين وتفاصيل شخصية ومواصفات جسدية لمن سيقوا إلى المعسكرات، ومنها إلى الأفران، ولممتلكاتهم التي صودرت، هي المصدر التاريخي الأكثر أهمية حول ما جرى، وهي الأداة الأكثر أهمية في تسخيف ادعاءات من ينكرون وقوع المحرقةraquo;.

والذي يوضّحه الأستاذ عزمي بشارة، أن الظروف الحضارية التي اكتشفت المحرقة النازية (الهولوكوست) جعلت كل من يشككون في حدوثها يعيشون خارج مملكة الواقع.

وليس بالصدفة أن يحضر المؤتمر الذي عُقد في طهران في أوائل كانون الأول (ديسمبر) 2006 عن laquo;المحرقةraquo;، يهود متدينون لا يؤمنون بالايديولوجية الصهيونية، لسبب واحد، ألا وهو اعتراضهم على laquo;علمانيةraquo; الصهيونية.

ويعرف كل من عاش في أميركا يهوداً أميركيين لا يعترفون بإسرائيل لأنها دولة laquo;كافرةraquo;، بحسب تعريفهم (بالطبع) للكفر والإيمان. وكما يقول عزمي بشارة: laquo;نشأت الصهيونية قبل المحرقة، واستهدفت فلسطين لإقامة دولتها قبل المحرقة أيضاً. وبررت الصهيونية مشروعها أممياً بالمحرقة بعد وقوعها، وربما دفع هذا التبرير بعض العرب إلى إنكارها، فبعضهم ذهب إلى أن تعظيم الجريمة يعني تعميق حق اليهود في إقامة دولة في فلسطين، فمالوا إلى تصغير شأنها، أو حتى إنكارها. ولكن التيار الغالب بين المثقفين العرب المهتمين أصلاً بمثل هذه القضايا لم ينكر المحرقة، كما أكد وجود لاسامية في أوروبا قبل ذلك، ولكنه ادعى بحق أنها وقعت في أوروبا... فلماذا يجب أن يتحمل الشعب الفلسطيني وزر نتائجها؟ هذا ما ذهب إليه العقل العربي والفلسطيني السليم، وموقف التيار الرئيسي في الثقافة العربية الفلسطينية. وعلى رغم وجودها السابق المتأثر بالجمع بين بعض رواسب الثقافة الدينية وأفكار قومية متطرفة واردة من أوروبا، إلا أن اللاسامية، كظاهرة عداء لليهود، انتشرت عربياً بشكل لافت كثقافة ومواقف مصوغة في كتب وكراسات فقط بعد عام 1967... أما إنكار المحرقة فهو ظاهرة متأخرة ومسيئة، يندرج ضمن التفكير في المؤامرة اليهودية العالمية، التي أصبحت بذلك تبدو كلية القدرة إلى درجة تمكّنها من اختلاق وتمرير منظومة أكاذيب بهذا الحجم على كل شعوب العالم على نمط laquo;البروتوكولاتraquo;.

وبرأينا المتواضع، هنالك نوعان من إنكار المحرقة: إنكار أوروبي يميني تاريخي يشارك فيه بعض المؤرخين وبعض الحركات اليمينية المتطرفة، وهو إنكار لم يضرب جذوراً تكسبه أهمية في تحديد سلوك المجتمعات والدول. وإنكار آخر يتجاهل كونها فعلاً تاريخياً جرى في سياق تاريخي محدد، وتتعامل معه كأنه شر شيطاني وقع خارج الزمان والمكان، ورفع جريمة المحرقة إلى منزلة فوق تاريخية، تمنع دراستها والاستفادة منها كتجربة تاريخية لمحاكمة خطورة العنصرية والتطرف القومي والهندسة الاجتماعية في الدولة الحديثة والمجتمع الجماهيري، ولا حصانة منه لأحد.

ومعظم ضحايا laquo;المحرقة النازيةraquo; أو laquo;الهولوكوستraquo; لم يكونوا صهاينة، ومعظمهم كان يفضّل أن يعيش حيث ولد وترعرع. وربما انه من غير المعروف أن شخصاً يهودياً في قامة ألبرت اينشتاين كان من المتعاطفين مع النازية في بداياتها الأولى، لأنه ظن أن laquo;النازيةraquo; ليست أكثر من حزب laquo;وطنيraquo; أراد أن يبني ألمانيا، فيوفر حياة أفضل لـ laquo;الجميعraquo; من مسيحيين ويهود. وبالطبع، اينشتاين وغيره من العلماء والمثقفين اليهود، اكتشفوا أن laquo;النازيةraquo; حزب فاشي متطرف يود استعباد البشرية جمعاء، حتى لو فضّل من ينتمون إلى laquo;العرق الآريraquo;. فهاجر من العلماء والمثقفين من استطاع منهم الهجرة إلى بريطانيا وأميركا. ولم يذهب منهم إلى فلسطين إلا من لم يستطع الهجرة إلى بريطانيا والأميركتين.

ونصرة الشعب الفلسطيني المظلوم واجب على كل عربي، وعلى كل مسلم، بل عمل إنساني نبيل قبل أي اعتبار آخر، ولكن لا ينبغي أن تشوبه الأغراض السياسية الآنية، أو يسيء إليه التشكيك في حدوث الثابت حدوثه.

وأصدقاء العرب من الأميركيين والأوروبيين كثيراً ما يتوسلون إلينا عدم ترديد أسطورة laquo;بروتوكولات حكماء صهيونraquo;، التي طلب قيصرٌ روسيٌ تأليفها، بل laquo;تزويرهاraquo; في القرن التاسع عشر، لزيادة شعبيته بين المسيحيين الروس، الذين كان معظمهم - كبقية الأوروبيين - يكرهون كل من يختلف عنهم في اللون أو المعتقد، كاليهود حينئذ والمسلمين حالياً.

والله من وراء القصد.