حازم صاغية


مفهومٌ ومبرّرٌ أن يخاف خليجيّون وعراقيّون ولبنانيّون وفلسطينيّون إيران وسياستها، وأن يحذروا الأفكار والمطامح التي تسدّد خطى قادتها. ما ليس مبرّراً، وإن كان مفهوماً، انتشار لغة التشهير بـ laquo;الفرسraquo; و laquo;الصفويّينraquo; و laquo;المجوسraquo; و laquo;الشعوبيّينraquo;، الى ما هناك من تسميات تجهر بعنصريّة بدائيّة حيال الإيرانيّين فيما تستبطن موقعاً متعالياً وتشكيكيّاً بشيعة البلدان المعنيّة.

وكما هي الحال دائماً في أوضاع كهذه، يطغى التعميم على التخصيص طغياناً مبرماً، فلا نعود نعرف هل شاه إيران الفارسيّ النموذجيّ، أم أنه محمّد مصدّق الذي أعدمه الشاه، وهل هو آية الله الخمينيّ الذي أطاح الشاه، أم الشيوعيّ الإيرانيّ كيانوري، أو الإسلاميّ - الليبراليّ محمّد خاتمي، أو، يا ترى، قائدة laquo;مجاهدي خلقraquo; مريم رجوي؟

والحقّ أن تعميمات كهذه، فضلاً عن خطلها المؤكّد، تعكس ذاك الميل الى توسيع الخلافات السياسيّة بحيث تصير laquo;حضاريّةraquo;، وإلى إسباغ الجوهريّة والتأبيد عليها بحيث تغدو laquo;تاريخيّةraquo;. عند ذاك نشتم أحياء الخصم وموتاه جميعاً، فنثبّتهم في سويّة laquo;أدنىraquo; من سويّتـraquo;ناraquo;، معلنين أن الصراع مع laquo;جنسهمraquo; كلّه ماضٍ الى يوم الدين.

ففي التراشق العنصريّ يلعلع اللسان من دون استشارة العقل، ويُفتي في التاريخ من غير استنطاق التواريخ. وهو منطق الحروب العصبيّة التي يُحلّل فيها ما يُحرَّم عادةً، بينما تُحال الخلافات الوطنيّة والسياسيّة ملحقاً بعصبيّات هي دون الأوطان ودون السياسة. وقد سبق للكاتب اللبنانيّ وسام سعادة أن نبّهنا (جريدة laquo;السفيرraquo; في 6/1) الى روعة تلك الحضارة الفارسيّة التي ننهال عليها بالشتائم والى ما تتبوّأ من مكانة في قائمة الثقافات. فنحن، لا سيّما بعض مثقّفينا وأنصافهم، قد نطلق العنان لشتائمنا بُعيد الاستماع الى أمّ كلثوم تغنّي قصيدة لعمر الخيّام، أو بُعيد الفراغ من قراءة laquo;كتاب الملوكraquo; لأبي القاسم الفردوسيّ. فلا نكون نعلن، والحال هذه، إلاّ أن جهلنا بـ laquo;هويّةraquo; الخصم مرآة جهلنا بـ laquo;ذواتناraquo; وأفعالنا وما ننطوي عليه.

فالشتائم تلك تنبئنا، بلغة أخرى، أن المعركة التي تُخاض ضدّ laquo;الفرسraquo; لا تُخاض، إلاّ نادراً، بأفق وطنيّ وسياسيّ. ذاك أن تناول المسألة بالأفق هذا يستدعي بذل الجهد الجديّ لتمييز مواطنينا الشيعة عن laquo;الفرسraquo;، وبذل جهد لا يقلّ جديّةً في مخاطبة laquo;الفرسraquo; الذين لا يشاركون حكومتهم رأيها وسلوكها، وهكذا دواليك... وهو تماماً ما يصحّ في الشتائم الأخرى لـ laquo;اليهودraquo; الذين غالباً ما أُخذوا، في بذاءات بعضنا، كلاًّ واحداً لا يعتوره انشقاق أو تفاوت. ولربّما باشرنا، مع دخول القوّات الأثيوبيّة عاصمة الصومال مقديشو، ضمّ laquo;الأحباشraquo; الى laquo;الفرسraquo; و laquo;اليهودraquo; أعداءً كليّين ينافسونهم على laquo;انحطاطهمraquo; الجامع.

فنحن يُفترض بنا، في المقابل، أن نتساءل عن سرّ وجودنا المعلّق هذا وسط كراهيّات نتبادلها مع جوار laquo;فارسيّraquo; وآخر laquo;يهوديّraquo; وثالث laquo;حبشيّraquo;. لكنْ، وعملاً بمنطق الحروب العصبيّة، يُستعاض عن ضآلة الواقع واضطرابه بعظمة تاريخ شاسع وباستقراره الوطيد الموطّد: هكذا، مثلاً، يصير سعد بن أبي وقّاص الذي دخل فارس رائداً من روّاد قبائلنا، فنُجافي الوطنيّة مرّتين: مرّةً في الواقع الذي هو أقلّ من الوطن وأدنى، ومرّةً في المرجع التاريخيّ الذي هو أكثر من الوطن وأبعد.

وصدّام حسين لم يفعل في قادسيّته الشهيرة غير هذا، حين كان يكرّر نبوخذ نصّر و laquo;يحمي البوّابة الشرقيّة للوطن العربيّraquo;، وفي الآن ذاته ينتقم من شيعة الدجيل وأكراد حلبجة. كذلك، لم يفعل الذين أعدموه غير هذا، عندما لووا عنق laquo;العدالةraquo;، وهي ما هي في مضمونها الكونيّ، لإدخالها في ثقب إبرة الثأر، ثم أعلنوا، بلسان رئيس حكومتهم نوري المالكي، أن هذا الأمر laquo;الإنسانيّraquo; يخصـّraquo;ناraquo; وحدraquo;ناraquo;، ولا يخصّ سوى laquo;العراقيّينraquo;.