جانب نوري المالكي الصواب، مرات كثيرة منذ تولى رئاسة الوزراء في العراق، لكنه هذه المرة بدا استفزازياً وصادماً، وهو يهدد بإعادة النظر بالعلاقة مع كل من تسول له نفسه انتقاد الطريقة التي اعدم بها صدام حسين، معتبراً أن المهزلة التي حدثت وعرضت على شاشات العالم أجمع وروعت الصغار والكبار، وشحنت النفوس بالحقد والضغينة المذهبية هي laquo;شأن داخليraquo;. وهنا كان لا بد للسيد المالكي، ان يتفضل إلى لبنان الذي يبعد عنه مرمى حجر، صباح أول أيام عيد الأضحى، وبعد أن شفى غليله من صدام، ليقتنع أن ما يحدث في عراقه ينعكس جنوناً وهستيريا، وانقسامات مذهبية في مرايا الدول المحيطة به. وإذا كانت الحرية هي ان تمارس رغبتك في حدود لا تؤذي غيرك، فقد تجاوز المالكي وأصحابه سقف حريتهم بأشواط، حين اعدموا ديكتاتوراًً بعثياً، مارس حكما علمانيا، لا يفرق بين ضحاياه إلا بقدر ما يهدد كل منهم أمن سلطته، على انه سني قتل الشيعة من دون غيرهم، في منطقة تغلي فيها المذهبية وتفور.

والتشابه كما الترابط بين ما يحدث في لبنان وفلسطين والعراق وما سيحدث في دول ستتبعها على ما يبدو، ولن نذكر أسماء، حتى لا نبدو كالمنجمين التلفزيونيين اللبنانيين ليلة رأس السنة، يوجب على المسؤولين laquo;الواعينraquo; وlaquo;الناضجينraquo; وlaquo;الأحرار الحقيقيينraquo; أولاً، أن يدركوا إلى أية محرقة يسوقون الملايين، باسم laquo;المصلحة الوطنيةraquo; وlaquo;الشأن الداخليraquo; وlaquo;أصوات الأكثريةraquo; وlaquo;إرادة الشعبraquo;. وبما ان الإرادات بيعت في سوق النخاسة ولم يبق غير العصبيات المحلية والارتهانات الخارجية، فلعل القناع قد سقط فعلا، وبات بمقدور الجميع ان يتحدثوا بوجه مكشوف، ووقاحة قد تكون مفيدة.

لم يعرف السنة والشيعة العرب، مذهبية مخجلة ومقززة كالتي يعيشونها اليوم. ومن مهزلة هذا الزمن أن يترحم المرء على مجازر البعث بعد أن استبدلت بأفران المذهبية الغبية التي بمقدور نارها ان تلتهم الآلاف يوميا لو اشتد وطيسها، وها هي تذيب المئات اليوم في العراق وحده، في ما يشبه بروفة أولية تجريبية للمشاهد المستقبلية المحتملة، عربيا. ونكاية بالأضحية المالكية البشرية التي قدمها هدية للعالم العربي، صباح العيد، ارتفعت يافطات في لبنان تقول لصدام laquo;وداعاً يا آخر الرجالraquo; وlaquo;طوبى لك في جنات الخلد يا شهيد فلسطين والامةraquo;. وثمة من تجمهروا يحدّقون بالقمر، مؤكدين رؤية ملامح وجه الشهيد العظيم، ترتسم على سطح الكوكب المضيء، الذي بمقدورك ان ترى فيه كل ما يعتمل في مخيلتك لو احببت، كما تقرأ في قاع فنجان القهوة مخاوفك وهلوساتك وآمالك.

مهمٌ التذكير ان ثمة شركة أميركية تحضر لتسفير السياح الراغبين إلى سطح القمر للنزهة والاستكشاف، في ما لا يستطيع المواطن العربي ان يرى في الكوكب الجميل ابعد من وجه طاغية، لكن الأهم والأنكى هو ان لا يكون بعض المسؤولين قادرين على رؤية ما هو أبعد من أرنبة أنفهم في أحيان كثيرة، وإلا ما كان ليتجرأ السيد المالكي ويبرر الطريقة الاستفزازية والفظيعة التي قتل بها صدام، بأن صدام نفسه ما كان ليتورع عن هكذا أفعال. وما دام لا تغيير في النهج والمستوى، على ما يبدو، باعتراف الحكومة العراقية الديمقراطية والمستنيرة، فإن أبواب الجحيم ستبقى مفتوحة، ويذهب صدام بعثي، ليأتي صدام شيعي، وربما بعده آخر كردي أو تركماني، وهكذا دواليك. وبمقدور الشعب الواحد، حين تتآكله الضغائن والفتن، ان ينقسم على نفسه في فئات لا متناهية الصغر، حتى الذوبان والتلاشي.

وإذا كان رئيس وزراء العراق لا يعبأ بما يمكن أن يجره مقتل صدام على العراق، بسبب السيناريو والإخراج المذهبيين، والمشهدية الوحشية التي نقلتها كاميرا الجوال، فهو لن يستطيع أن يكبح جماح المحتجين على فعلته خارج حدود سلطته، كما لن يتمكن أحد غيره أن يكبحهم أيضا. والاحتجاج الشعبي لسوء الحظ، خارج عن عقال العقل ينحو باتجاه حماسة جياشة، تحصي الحجج والأسباب والأخطاء، لتصنع جبالا من الأحقاد تتمترس خلفها. والطرفان المذهبيان، السني والشيعي، في المنطقة العربية، باتا في حالة هيجان مرعبة، تنذر بشر مستطير، لن ينفع معها تهديد ووعيد المالكي أو غيره، وإنما وعي وتخطيط، وتفكيك وتنفيس.

وإذا كان العراق يتفجر زاوية بعد اخرى، ومبنى تلو آخر، فإن لبنان بات خزان بارود، واللبنانيون الأوفياء للعصبيات على انواعها، يبدلونها حسب التقليعات السائدة في محيطهم، خلعوا أزياء اليمين واليسار، والعروبة والتأورب، التي طالما تناحروا وقدموا أطفالهم على مذابحها، ودخلوا موضة المذهبية متنكرين بلبوسها وأكسسواراتها مستعيرين كل خطاباتها ومفرداتها، نابشين من تاريخهم كل مستلزماتها الخرقاء، متأهبين لمعركة لا تبقي ولا تذر. كلهم يتحدثون عن17 سنة من الحرب والخراب، خرجت منها الطوائف بصلح لا غالب فيه ولا مغلوب، وكلهم يعلمون ان اية حرب جديدة ستكون تكرارا مقيتا لما سبق، تنتهي بالنتيجة عينها التي لا ينتصر فيها أحد على أحد، ويخرج الجميع خاسرين، ومع ذلك يشحذون سلوكياتهم المذهبية، ويقولون لك بعد كل حوار ساخن: إن شاء الله خير.

الخير لا يبدو في متناول اليد، مادام ثمة من يعتقد أن الأمور العظام في زمن الكاميرات، يمكنها أن تبقى، أهلية بمحلية، ويتصرف السيد المالكي وأمثاله في المنطقة وكأن منطق العشيرة، لم ينكسر. وشيئا فشيئا في هذا الزمن الأحمق يتحول من ينادي بقيم فوق الطوائف والمذاهب الشاحذة أسنتها وألسنتها، الى عصفور ضالّ يغرد خارج سرب المجازر.

[email protected]