الأربعاء 10 يناير 2007

د. حسن مدن


في عهد الاتحاد السوفييتي المنهار راجت معلومة، تبدو في الظاهر أقرب إلى الطرفة، لكنها في حقيقة فحواها أن اليابان توجهت لفترة نحو استيراد سيارات ldquo;لاداrdquo; السوفييتية الشهيرة، وليس في هذه السيارات شيء من أناقة ورفاهية السيارات اليابانية أو الأمريكية، ولكنها معروفة بمتانتها، فهي صممت لتحمل مناخ قاس في بلاد تعيش أكثر من نصف السنة تحت الثلوج، والسوفييت المستغربون من الأمر تساءلوا: ما عسى اليابانيون فاعلين بسياراتنا، وهم أصحاب أكبر مصانع إنتاج أفخم وأحدث السيارات، حتى اتضح فيما بعد أن كمية الحديد الموجودة في سيارة ldquo;لاداrdquo; تكفي لصناعة جسم سيارتين يابانيتين، فيقوم اليابانيون بإعادة تكييف هذا الحديد واستخدامه، من جديد، في صناعة سياراتهم.

وقرأت مرة دراسة لأحد الباحثين العرب عن ظاهرة المواد التي يأخذها العمال المغاربة المقيمون في أوروبا حين يعودون لأوطانهم، فلاحظ انه حتى وقت قريب كان العامل يكتفي بنقل السيارة، لكنه أصبح، فيما بعد، يعود إلى وطنه محملا بمصنوعات التقنية وأشيائها المختلفة من أدوات التجهيز المنزلي والدراجات وقطع الغيار ولوازم السيارات والراديو والفيديو التي تكون قد استهلكت بالكامل ولم تعد صالحة للاستخدام، ولكن هؤلاء العمال يعيدون الحياة إلى هذه الأجهزة أو يستخدمون ما فيها من قطع غيار لإعادة الحياة لأجهزة مشابهة في بلدانهم.

ولو راقبت السمكري الذي يغير الأدوات التالفة في منزلك، للاحظت انه لا يرمي هذه الأدوات، إنما يحرص على الاحتفاظ بها في الصندوق الذي بين يديه، وهو لا يفعل ذلك عبثا، إنما بهدف إعادة استخدامها أو استخدام أجزاء أو حتى مجر ldquo;براغيrdquo; منها في مرات قادمة في أماكن أخرى، والكثيرون منا ربما يتذكرون انه قبل عقود قليلة كانت أحياء المدن والقرى في الخليج تشهد جولات بعض الأشخاص الذين يشترون بمبالغ متواضعة أشياء مستخدمة أو فاقدة القيمة كأواني أو قدور الطبخ وأسلاك الكهرباء النحاسية وسواها ليعيدوا بيعها الى محلات متخصصة، ليعاد استخدامها من جديد بعد تصليحها.

والفكرة هنا أن المواد لا تبلى، وانه بالإمكان إعادة استخدامها أو إطالة أمد استخدامها، على عكس ما ذهب إليه المعتزلة مثلا في الفلسفة العربية الإسلامية يوم قالوا إن الفناء خاصة من خواص الأجسام التي تنتهي إلى التفسخ والنهاية، وبالمناسبة فان كاتب الدراسة التي أشرت إليها أعلاه عن سلوك العمال المغاربة في أوروبا، عقد مقارنة بين فكرة قيام هؤلاء العمال المهاجرين بأخذ ldquo;الخردةrdquo; معهم لإعادة استخدامها في بلدانهم وبين سلوك العالم المتقدم إزاء المواد التي ينتجها، فهو يضع لها عمرا افتراضيا، ويحدد لها استخدامات معينة محصورة، فبرغي التلفزيون لا يصلح للفيديو مثلا، وهو الأمر الذي لا ينطلي على العامل المهاجر من بلدان المغرب الذي يعاني من ندرة المواد أعلاه في بلاده. وبالمناسبة أيضا فإن نمط استهلاكنا في مجتمعات الخليج ينحو نحو النمط الأول، مع فارق جوهري مهم هو أن السيارة التي يمكن أن يستخدمها الأوروبي عشر أو خمسة عشر عاما يستخدمها الخليجي لعامين أو ثلاثة ليقرر بعدها أنها ldquo;خردةrdquo;، في تعبير صارخ عن الخفة الاستهلاكية التي تبلغ حد الاستهتار والتهور، وتستطيب الاستهلاك لا الادخار.