جمال البنـّا

الفكر الإسلامي السائد اليوم هو الفكر السلفي هو فكر المؤسسة الدينية (الأزهر)، وفكر الجامعات الإسلامية في السعودية، وفكر الهيئات الإسلامية والمفكرين الإسلاميين، هؤلاء جميعًا ليسوا فحسب يؤمنون بالفكر السلفي، بل أنهم يفتخرون به أيضًا. وحتي لا يحدث لبس نقول أننا نعني بالفكر السلفي، ذلك الفكر الذي يقوم علي:

(أ) الإيمان بمذهب من المذاهب الأربعة المقررة لدي السُنة.

(ب) التسليم بصحة تفسيرات القرآن التي قام بها المفسرون من ابن عباس حتي سيد قطب، وما جاءوا به علوم القرآن مثل النسخ، وأسباب النزول والأحكام التي بنيت علي هذا التفسير.

(ح) الإيمان بصحة ما ذهب إليه المحدثون في تصنيف الأحاديث ما بين صحيح وضعيف، وأن الأحاديث المروية عن عدول تعد صحيحة وتؤخذ منها الأحكام، والإيمان علي الأقل بصحة ما جاء في الصحيحين (البخاري ومسلم).

(د) اعتبار السلف الصالح قدوة والتأدب بآدابهم والترضي عليهم (أي قول رضي الله عنه) عند ذكرهم.هذا هو إطار الفكر السلفي وكما قلنا، فإن الجميع يؤمنون به، غاية الأمر أن بعضهم يضِّيق من هذا الإطار كالسعودية، وبعضهم يوسع فيه كالإخوان المسلمين أو بعض المفكرين، ولكنهم في النهاية يلتزمون بها، وما أن يجدوا حديثاً صحيح الإسناد حتي يوجبوا إعماله دون أن يعملوا عقولهم في متنه.

ونحن نقول إنه لا تقدم حقيقي إلا بمجاوزة هذه السلفية بمكوناتها الأربعة السابقة والأحكام الفقهية المستمدة منهما خلال القرون الثلاثة أو الأربعة للهجرة، ولقد كان الأسلاف من الشخصيات الذكية المؤمنة التي حصلت ثقافات عصرها وأرادت بعملها هذا التقرب إلي الله وحفظ الإسلام، بل ما من شك أنهم من كبار النابغين، ولا شك أنهم بذلوا جهودًا دائمة، بل أفنوا أعمارهم، ولكنهم ليسوا ملائكة، وليسوا معصومين، وقد كانت وسائل البحث والدراسة محدودة في الكتاب المنسوخ باليد والاتصال بالشيوخ علي صعوبة وسائل الانتقال وأهم من هذا أنهم إنما كانوا يعبرون عن روح عصرهم، ولا يستطيع أحد أن يتحرر من عصره، وكان العصر من ناحية حافلاً بالشيع، والملل، والفلسفة اليونانية والتهيؤات الصوفية، وكل ما جاءت به الأجناس التي آمنت بالإسلام، ولكنها احتفظت بوراثة حضارية لدينها السابق وحضارتها القديمة، ولم تستطع أن تتحرر منهما لأنها تعمل في العقل الباطن لأنها وراثة بيولوجية تسري من الإنسان مسري الدم، ومن ناحية أخري كان البطش بالمعارضين أهون شيء علي الحاكم مع عدم وجود آليات تحمي الحقوق أو تضع ضمانات للفرد وضوابط علي حرية الحاكم.ولهذا جاءت كثير من الأحكام متوائمة مع الطبيعة الإمبراطورية للدولة الإسلامية في القرن الثالث الهجري ومجافية لأحكام القرآن خاصة في مجال حرية الفكر والاعتقاد والمرأة وضحالة الإحساس بالعدل.

رغم هذا كله فإن ما وضعه الأسلاف عندما أقاموا منظومة من المعرفة الإسلامية كان عملاً متميزًا ورائعًا في عهده، ولكن لا يتصور أحد إلا الذين انغلقت أفهامهم وجمدت مداركهم أن هذا العمل يصلح في مجابهة العصر الحديث الذي قام لمدة أربعة قرون متوالية من استلهام العقل ومن القيام بثورات تجارية وصناعية واجتماعية وسياسية وثقافية متوالية بدءًا من اختراع المطبعة التي أتاحت طبع ملايين الملايين من نسخ الكتب والصحف، ثم الإذاعة، ثم السينما، ثم التليفزيون وأخيرًا الكمبيوتر الذي جعل ثقافة العالم عند أطراف الأصابع، فأين يذهب الأسلاف أمام هذا؟

إن من العبث والمغالطة أن ندعي أننا يمكن أن نجد فيما وضعه الأسلاف من ألف عام حلاً لقضايا العصر، أو معايشة معها.وقد يحدث أن يخترق ذكاء بعض هؤلاء الأسلاف ومواهبهم ظلمات العصر فيصلوا إلي ما قد يعنينا في مشاكل العصر، لكن هذا أشبه بعرق ذهب في داخل جبل أشم، ولابد لاستخلاصه من جهد، ومال، ووقت يزيد أضعافاً عما يمكن أن نخرج به.

وفي النهاية نجد من العبث والمغالطة أن ندعي أن هذا التراث الذي وضع من ألف عام يمكن أن يكون عمادنا في حل مشاكلنا.وهل يعقل أن يكون لدينا كل ثقافة العصر، ثم نعدل عنها إلي ثقافة الأسلاف؟ إن لغة الأسلاف في كتاباتهم قد أصبحت أعسر في الفهم عند العرب من اللغات الأوروبية للذين يجيدونها والتي تلتزم بالضبط والالتزام بالأصول، فإذا كانت الأساليب اللغوية نفسها معقدة، وغير منضبطة، فضلاً عن المادة المشحونة بآثار أهل الكتاب، وصفحات كاملة من العهد القديم، وأحاديث موضوعة، وأبيات شعرية ركيكة.هل ندع ثقافة العصر التي قام عليها المجتمع الحديث بكل ما أبدعته من اختراع واكتشاف وكل ما قدمته للبشرية من فكر وعلم وفن والذي يتجدد فيه كل شيء يدفع التقدم المستمر والمتوالي ونقف علي ما وجدنا عليه آباءنا.

وإذا كان ما تركه الأسلاف عظيم وثمين وعلينا أن نعض عليه بالنواجز ولا نعدل به فكرًا آخر، ويكون دورنا العكوف عليه والتحقيق فيه، فإن معني هذا أن لا نعمل عقلنا بحيث يأتي بجديد، والنتيجة الحتمية لهذا أن يصدأ عقلنا ويشل ويفقد ملكة الإبداع ويصبح عقلاً نقليًا، وهذا هو ما تعرضت له أمة الإسلام عندما أغلق باب الاجتهاد منذ ألف عام.أي لعنة أسوأ من هذا؟ أي غضب من الله يحل علينا عندما ينعم علينا بالعقل، فلا نعمله، بل نهمله ونقول: حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا .

هل نعجب إذا تخلفنا؟ هل نعجب إذا لم نستطع أن نحل أبسط المشاكل ونهرع إلي المفتي في حين أن الصبي الأوروبي يحل بنفسه مثل هذه المشاكل وأصعب منها.هذا كله إذا كان التراث ممتازًا ويمكن أن يجابه تحديات العصر، والحق أنه متخلف، وهي اللفظة الحقيقية لأن القضية قضية زمان، ولا يستطيع أن يتسع لمقتضيات العصر، وأن علينا أن نفعل مثل ما فعل الأسلاف عندما وضعوا منظومة المعرفة الإسلامية، أي أن نعيد تأسيس منظومة المعرفة الإسلامية من جديد، علي أسس جديدة، وبروح جديدة.أريد أن أقول إن هذا الكلام كله لا يمس الإسلام نفسه، ولا يمس القرآن نفسه ولا يمس السُنة نفسها، وإنما هو ينصب علي فهم الأسلاف للقرآن والسُنة، ونحن بقدر ما نحذر من ظلمهم فإننا نرفض توثينهم، أو الظن أنه لا يوجد أمثالهم، لقد كان أحد هؤلاء الأسلاف - أبو حنيفة - هو الذي قال هم رجال، ونحن رجال ، ونحن نقول هذا ونضيف أن من المؤكد أن يوجد من يفضلون الأسلاف علمًا وفكرًا وفقهًا ووصولاً إلي الأحكام والنتائج معهم لأن لدينا من وسائل الثقافة والمعرفة ما لم يكن يحلم به أسلافنا الذين كان الواحد منهم يسافر من المدينة إلي الفسطاط أو دمشق بحثاً عن حديث ويستغرق ذلك منه شهرًا في ذهاب وإياب علي ناقته، ونحن اليوم لدينا اسطوانة صغيرة تضم أحاديث الكتب الستة، وما أن تضعها في جهاز الكومبيوتر حتي يخرج بضغطة الحديث المطلوب.إن السلفية بقدر ما هي مادة فإنها روح، وبقدر ما تدين مادتها إلي عصرها، فإن الروح التي انطلقت منها روح نقلية ، لقد كان الحديث هو أول عنصر في عناصر المنظومة الإسلامية، ونشأ التفسير في عهده وعلي أساسه، والحديث نقل.. مجرد نقل.من هنا كانت السلفية مادة وروحًا مما لا مفر من تجاوزه حتي يمكن تحقيق أي تقدم حقيقي للمعرفة الإسلامية، وحتي لا نقف عندما وقف الإسلام من ألف عام.