الخميس 11 يناير 2007


د. أحمد عبد الملك

لاشك أن التاريخ الإسلامي حافلٌ بكل ما هو جميل ومفيد وقابل للنماء، تماماً كما هو حافل ببعض ما هو قبيح وسيئ وغير قابل للنماء، وتلك هي حكمة الله.

وعلى مرّ العصور كانت هنالك تجاذبات ومقاربات سواء بين المسلمين أنفسهم -بعد مقتل عمر الخليفة الثاني- وحتى الهزيمة في الأندلس بعد حكم إسلامي استمر لأكثر من 500 عام، أو بين المسلمين وغيرهم، سواء كان ذلك في الحروب الصليبية أو غزوات المغول، أو العدوان الإسرائيلي -في أكثر من مناسبة- على الدول الإسلامية.

والحقيقة أن المغالاة بتفوق العنصر العربي أو الإسلامي، كانت أحد الأخطاء الكبيرة التي وقع فيها، أحياناً، المسلمون، في فترات، بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. هذه المغالاة أساءت أحياناً تفسير آية (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر). والذي يتمعن في الآية المبدوءة بفعل quot;كانquot; في الماضي، قد يجد أنها تعني نفي الحال في الحاضر، وهذا يجعلنا نقارع بعض الغلاة المنافحين عن التفوق العنصري أو النوعي لأمة على أخرى.

وكان من نتيجة الفهم الخاطئ للإسلام أن تمت معاداة كل ما هو غير مسلم أو إسلامي، وانبرى الدعاة والخطباء -على المنابر- يحقّرون كل ما هو غير إسلامي، حتى أهل الكتاب، أهل الديانات السماوية المعترف بها في القرآن الكريم، وهم المسيحيون واليهود. وحظر هؤلاء تفسير آية (لكم دينكم وليَ دين)، ولم يقتربوا منها، وذهبوا يدعون على النصارى واليهود دعوات غير حضارية، وبأساليب يقشعر منها البدن. وللمعلومية استمرت تلك الدعوات قروناً! رغم أن المسيحيين يُساكنون المسلمين في بقاع شتى، وهم عربٌ يؤمنون بالقضايا العربية، ويقفون مع المسلمين في مواقفهم ضد أعدائهم، وأهم ما في ذلك العدو الصهيوني. هذا التوجه في الخطاب الإسلامي quot;نفَّرquot; أهل الديانات الأخرى من المسلمين والإسلام، وظهرت المشاحنات والاختلافات بين الفريقين، وكانت أوروبا دوماً مصدر ترويج تلك المشاحنات والاختلافات نتيجة حرية التعبير والمناخات الديمقراطية التي تتجاوز الحد أحياناً للمساس بالرموز الدينية لكل الديانات وليس للإسلام فحسب.

ما يهمّنا في هذه المرحلة من صراعنا مع العدو الصهيوني، هو أن نكسب الإخوة المسيحيين، في مشارق الأرض ومغاربها معنا، وأن نفتح حواراً عاقلاً يقبل هؤلاء دون الرجوع إلى نبش التاريخ واستخراج quot;عفنquot; الأحداث بقصد quot;المعايرةquot; وإبراز الحجة التي دوماً لها ما يقابلها! فنحن نقول إن مبادئ الإسلام تركن إلى التسامح والصفاء والعدالة وسواسية البشر والسلام والمحبة ونجدة الملهوف، ورفع الظلم عن المظلوم، وكلها قيم حضارية تحتاجها شعوبٌ مسيحية في شتى بقاع العالم! فلماذا لا نصل إلى تلك الشعوب، لا لكي quot;نؤسلمهاquot; بالضرورة، بل لإنشاء حوار معها، ونعرّفها بحقيقة الإسلام التي جرى تحريفها، وتنميطها من قبل المسلمين والغرب على السواء.

فالحرب التي quot;استعرتquot; إثر مثال استحضره البابا quot;بنديكت السادس عشرquot; في محاضرة له بألمانيا، ما كان لها أن تستعر لو كان هنالك فهم مشترك أو حوار بين الطرفين! بل ووجود تلك quot;الحساسيةquot; الفائقة لدى طائفة من المسلمين، التي تغلق باب التفكير وتُعمي البصيرة! وكانت ردة الفعل عنيفة لدى البعض، حيث طالبوا بـquot;صلبquot; البابا! ناهيك عن الاعتداء على بعض الكنائس.. وهذه ليست من صفات الإسلام.

بالأمس القريب دعا البابا -وهو في زيارة إلى تركيا- إلى حوار صادق يستند إلى الحقيقة بين المسيحيين والمسلمين، هذا الحوار quot;يحترم الخلافات ويعترف بالنقاط المشتركةquot;. مضيفاً، أن quot;الأديان وُجدت للسلام والمصالحة، ويجب ألا تُفسّر بغير ذلكquot;. هل يوجد كلام أجمل من هذا؟ لماذا إذن نحن نسمع كلمات مختلفة عند بعض الغلاة من الدعاة؟ ولماذا، ونحن في هذا العصر المتطور، يخرج علينا بعض الذين يعيشون في عصور الظلام ليتحدثوا عن quot;اللحم المكشوفquot; كما حدث مع داعية في أستراليا؟ أو القيام بهجوم على مسرح يقدم مسرحية تنير طريق المجتمع وتبثّ فيه الوعي، كما حدث في إحدى دول الخليج؟ ماذا تودون من وسائل الإعلام الغربية أن تقول وهي تشاهد تصرفات قروسطية، بل تصرفات أهل الكهوف؟ لماذا ننطلق وننزلق في الدفاع عن قضايا يراها العالم كله أنها تناقض التاريخ والمعاصرة؟

لماذا نثور عندما يقول الإعلام الغربي إن المسلمين لا يعرفون الحوار، وهل ما حدث في محاضرة قبل أسبوعين في بلد عربي يدافع ضد دعاوى الإعلام الغربي: المحاضر مع زملائه على الطاولة، فتهب مجموعة لا تؤمن بفكر المحاضر المستنير، وتقلب عليه الطاولة! هل هذه من خصال الإسلام؟

نعود إلى أهمية الحوار مع المسيحيين! يوجد في أوروبا وأميركا، بل وأفريقيا وآسيا، ملايين المسيحيين، نجح المسيحيون في إقناعهم بالديانة المسيحية، ولم ينجح المسلمون في ذلك، رغم الفتوحات الإسلامية التي وصلت إلى الصين، هؤلاء يجب أن نحاورهم! فنحن -في الخليج مثلاً- نأتي بالهنود والفلبينيين والسيرلانكيين والنيباليين من الطائفة المسيحية، ولا نناقشهم في دينهم، أو نعرِّفهم بالتوافق والميزات التي لا يختلف فيها الإسلام عن المسيحية، بل وإن أقرب ديانة إلى الإسلام هي المسيحية، وما الإسلام إلا مُتمم للديانات كلها. بدلاً عن ذلك، يقوم البعض منا بتحطيم بعض رموز الديانة المسيحية التي يستخدمها هؤلاء في غرفهم أو غرفهن، وننادي بأننا نخاف على أبنائنا من انحيازهم إلى المسيحية نتيجة مخالطتهم لهؤلاء المسيحيين! وبالتالي نضع حدوداً بيننا وبينهم، ناهيك عن قيام البعض الجاهل بسوء معاملتهم أو حتى الاعتداء على النساء منهن، وسط المجتمع المسلم.

نحن في إمكاننا أن نكسب سائقاً مسيحياً أو شغالة مسيحية بأخلاق الإسلام، فما بالكم بالندوات والمحاضرات والفضائيات التي يجب أن تُبدّل نهجها وشخصياتها لنقل رسائل إسلامية حضارية إلى المجتمع المسيحي في العالم، ناهيك عن دور المسيحيين العرب الذين يسكنون أوروبا وأميركا، في التعريف بحقيقة الإسلام التي quot;حرَّفهاquot; بعض الدعاة المنغلقين الذين يعادون كل ما هو غير إسلامي، ويتحينون الفُرص -للظهور الإعلامي- ضد قول هنا أو خبر هناك، ويبرزون كقادة فكر يدافع عن الإسلام، وإن كان دفاعاً أعمى.

الدعوة إلى حوار مع إخواننا المسيحيين يجب أن تتجاوز الندوات والمؤتمرات، بل يجب أن يكون هنالك quot;تحديثquot; في الفكر الإسلامي -الذي يعشش داخل عقول الكثير من المسلمين- يقوم على فلسفة حب الآخر والتحاور معه. وبذلك نستطيع كسب العالم إلى قضايانا الإسلامية والعربية، ولنا أن نسأل: لماذا نجح اليهود في كسب الرأي العام المسيحي -الرسمي والشعبي- لصالحهم؟