باتريك سيل

لنتصور، ولو للحظة، ان ملاكا كريما قادرا على أن يلوح بعصا سحرية فوق الشرق الأوسط، قد حل مكان رئيس عنيد مولع بالقتال في البيت الأبيض. ومكان مجلس أمن للأمم المتحدة عاجز، وأوروبا منقسمة على نفسها، ومكان حكومة اسرائيلية لا يتوقف أعضاؤها عن الشجار، ومكان عالم اسلامي غارق في الاضطراب، ولنتساءل، ما الذي يمكن أن يفعله هذا الملاك (ذكرا كان أم أنثى) على اعتبار ان الملائكة لا جنس لها!

قد يبدأ الملاك في لبنان، لأن أزمة هذا البلد، على رغم كل المظاهر، هي أسهل حلا من سواها، اذ يبدو ان جوهر الأزمة هو في كون الطائفة الشيعية المتمركزة، في غالبيتها، في جنوب لبنان، وفي ضاحية بيروت الجنوبية، قد حرمت من حقها المشروع في المشاركة في سلطة الدولة. لقد أهملتها الحكومة المركزية، بعد أن حصل لبنان على استقلاله منذ ستين عاما، وهمشتها، ولم تمنحها ما تستحقه من تمثيل في المؤسسات الرسمية، وهي اليوم تطالب باسترداد حقوقها المشروعة.

ان التمييز الذي عانى منه الشيعة يبرز اليوم بشكل أوضح بعد أن أصبحوا يشكلون أكبر طائفة في لبنان، وبعد أن نجحوا، فعليا، ووحدهم، في الدفاع عن لبنان، ضد الهجمات والاختراقات الاسرائيلية المتكررة منذ عام 1970 وحتى الآن. لقد بقي جنوب لبنان الميدان الرئيسي، في كل المواجهات العربية ndash; الاسرائيلية، وكان الشيعة هم ضحايا الاختراقين الاسرائيليين للبنان في عامي 1978 و1982 كما كانوا الضحايا خلال الاحتلال الاسرائيلي لجنوب لبنان الذي دام 22 سنة، والهدف الرئيسي لحرب اسرائيل على laquo;حزب اللهraquo; في الصيف المنصرم.

ان الميثاق الوطني اللبناني لعام 1943 - وهو الاتفاق الذي حدد اقتسام السلطة بين الموارنة والسنة، والذي تم تعديله في الطائف عام 1989 - لم يعد يعكس الحقائق والوقائع الديموغرافية والسياسية في لبنان، حاليا، والمطلوب هو ميثاق جديد يوفر تمثيلا أفضل لكل الطوائف في مؤسسات لبنان الرسمية.

يتوجب على لبنان، نظريا، أن يقرر الغاء النظام الطائفي كلية، لأنه كان سبب الكثير من النزاعات، ليحل مكانه نموذج جديد يقوم على laquo;المواطنة العلمانيةraquo; التي تجيز لأي لبناني - ذكرا كان أم أنثى، مسيحيا كان أم مسلما - أن يصل الى أرفع مركز وموقع في السلطة.

وكان الرئيس السابق أمين الجميل قد اقترح في كانون الثاني (يناير) عام 1986 أن يتم انشاء منصب نائب لرئيس الجمهورية مخصص للشيعة، ولكن لم يؤخذ باقتراحه، واليوم هناك حاجة ماسة لاجراء اصلاح أكثر راديكالية، لتجاوز النزاعات الايديولوجية العقيمة التي تمزق لبنان حاليا.

ولا يجوز أن ينظر الى هذا الاصلاح المنشود على انه تهديد للطوائف اللبنانية الأخرى، ولا على أنه يستهدف مصالح القوى الخارجية، بل على العكس تماما، اذ ان تكريس الوحدة الوطنية اللبنانية هو اسهام كبير ورئيسي في تحقيق الاستقرار في المنطقة بأسرها.

وسيحتاج الملاك، بعصاه السحرية، أن يركز اهتمامه على علاج العلاقات اللبنانية السورية التي تعرضت، في السنتين الأخيرتين، الى التخريب والعطب، اذ لا يمكن التفكير في الفصل الدائم بين دمشق وبيروت، ذلك ان البلدين، laquo;المنحوتين من ذات الجسدraquo; لا غنى لأحدهما عن الآخر: هناك، وعبر الحدود المشتركة، روابط ووشائج، عائلية وانسانية وتجارية، كثيفة وعميقة بحيث يستحيل اجراء الطلاق بين البلدين. ولكن لا بد من اصلاح الأخطاء المرتكبة، للتغلب على العداء المستحكم بين البلدين، ولا بد من معاقبة المسؤولين عن الجرائم والتجاوزات في البلدين، وعلى سورية أن تعترف بسيادة لبنان واستقلاله، وعلى لبنان أن يعترف بمصالح سورية الاستراتيجية القائمة على رفض وجود قوى معادية في بيروت، ترى فيها دمشق تهديدا لأمنها القومي.

وقد ينصح الملاك، على الأغلب، أن يجتمع المسؤولون الكبار في البلدين - على مستوى وزاري رفيع - وفي أقرب وقت، وفي بلد محايد مثل سويسرا، لوضع نهاية رسمية لخلافاتهما، وللتوصل الى صيغة للتعايش المستقبلي. ولابد من اقامة علاقات ديبلوماسية بين البلدين على أساس الحوار، لا الاكراه والقسر، ولا بد من تبادل السفراء بين بيروت ودمشق.

التاريخ والجغرافيا يمليان علينا الاقرار بأن سورية ولبنان مرتبطان laquo;بعلاقة خاصةraquo; استثنائية في المنطقة، والمطلب العاجل والملح هو اقامة العلاقات بينهما على اسس صحية.

****

ان تسوية الصراع بين اسرائيل والفلسطينيين وسورية قد يتطلب ليس وسيطا استثنائياً خارقاً واحداً، وانما مجموعة من الملائكة. المعضلة الحقيقية ان اسرائيل كانت عاجزة، حتى الآن، عن تشكيل حكومة، راغبة وقادرة على فعل ما هو ضروري ولازم - أي الانسحاب من الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما فيها القدس العربية، وفك المستوطنات، والنزول من هضبة الجولان. على كل، لا يجوز أن تقطع الآمال نهائيا حول هذا الموضوع.

لقد حث الكثير من الاسرائيليين حكومة أولمرت على الاستجابة لنداء سورية المتكرر لاجراء مفاوضات السلام، وبدأ بعض المسؤولين الاسرائيليين يتحدثون عن مشروع السلام العربي الذي أطلق في آذار (مارس) عام 2002، والذي يعد اسرائيل بعلاقات طبيعية مع 22 دولة عربية اذا وافقت على الانسحاب الى حدود 1967، وهذا معناه ان السلام ليس حلما مستحيلا.

وكان ايهود باراك، رئيس وزراء اسرائيل السابق، قد اقترب كثيرا من التوقيع على صفقة مع سورية عام 2000، وها هو قد عاد اليوم الى المسرح السياسي، وهو يحاول أن يحل مكان عمير بيريتس في وزارة الدفاع، بل حتى في قيادة حزب العمل الاسرائيلي.

لا يبدو ان باراك يتمتع بشعبية واسعة في اسرائيل، ولكن كان لديه متسع من الوقت للتأمل في أسباب اخفاقه في تحقيق تقدم في عملية السلام 1999 - 2000. لقد ضحى بفرصة سنحت له لتحقيق السلام مع سورية، من أجل الاحتفاظ بمائة متر في الزاوية الشمالية الشرقية من بحيرة طبرية. على اية حال، اذا حالفه الحظ مجددا، فقد تتاح له فرصة جديدة الآن، وهذه المرة، اذا عرف كيف يكون شجاعا وصاحب رؤيا، فقد يكون قائدا قادرا على أن يخرج اسرائيل من حفرتها السوداء.

****

اما في ما يتعلق بالرئيس جورج بوش، فتؤكد المصادر الموثوقة ان سلوكه يولد اليأس بين الملائكة، اذ انه بدلا من حل صراعات الشرق الأوسط، بتشجيع اسرائيل على أن تسعى الى السلام مع جيرانها، واشراك سورية وايران في المفاوضات والحوار، يفعل العكس تماما.

ان جماعة من المسؤولين الأميركيين يعملون في الظل، من وزارة الخارجية، ومجلس الأمن القومي، والبنتاغون، وجهاز المخابرات المركزية، يتآمرون لاحداث تغيير في النظام السوري، بتقديم المساعدات المالية السخية الى جماعات من المعارضة السورية من جهة، ولخلق العراقيل أمام النظام المصرفي الايراني، وامام رغبة بعض الشركات الأجنبية في تطوير واستثمار حقول النفط في ايران، من جهة ثانية.

ان الحرب على العراق هي أكبر هموم بوش، ومن الواضح انه ليس مستعدا، بعد، للاعتراف بالهزيمة، ولا لوضع حد لمغامرته الكارثية. وتشير كل الدلائل الى انه ما زال مصرا على متابعة ما يسميه laquo;استراتيجية النصرraquo; المفلسة، رافضا أن يستمع الى النصائح الحكيمة التي يقدمها له فريق بيكر - هاملتون، ومستمرا في عناده الذي يسبب لبلاده المزيد من الضحايا، والمزيد من المال الذي يهدر عبثا.

ولكن حرب العراق ليست نهاية سوء طالع بوش. انه يسعى، بتحفيز من بعض صقور المحافظين الجدد، من أمثال اليوت ابرامز وأعضاء في مجلس الأمن القومي، الى زعزعة laquo;حزب اللهraquo; في لبنان، أي الى اكمال المهمة التي فشلت اسرائيل في تحقيقها في الصيف. لقد قامت الولايات المتحدة، بهدف تنفيذ هذه المهمة، بتسليح قوات الأمن الداخلي اللبنانية التابعة لحكومة السنيورة، وبالضغط على ميشال عون زعيم laquo;التيار الوطني الحرraquo;، كي ينهي تحالفه مع laquo;حزب اللهraquo;.

ويبدو ان الولايات المتحدة مصممة أيضا على سحق حركة المقاومة الفلسطينية laquo;حماسraquo;، وهي تقوم بتوفير الأسلحة والتدريب، ودفع عشرات الملايين من الدولارات الى laquo;فتحraquo;، الموالية لرئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، والمنافسة لـ laquo;حماسraquo;، وقد دفعت الولايات المتحدة مصر والأردن الى التورط، وتزويد قوات laquo;فتحraquo; بعشرات الآلاف من البنادق، وملايين الطلقات، وكمية كبيرة من الذخائر العسكرية.

وهناك خطة أخرى يعدها اليوت ابرامز ويقوم بتنفيذها على الأرض دافيد وولش، وهو من كبار مسؤولي وزارة الخارجية الأميركية.

ومثل هذه المخططات ستشعل نيران الحرب، عوضا عن توفير السلام في منطقة تعاني من الاضطراب، فلا عجب اذا هز الملائكة رؤوسهم يأسا من جنون البشر، بل ان الأحاديث المتداولة تؤكد انهم قد يتخلون عن مهمتهم الاسعافية قرفا.