رشيد الخيون


ماذا لو قُدر وأَشهرَ جورج بوش إسلامه! حلاً لمعضلته العراقية، ناهيك من الأفغانية! كآخر الخيارات وأقلها خسارة، مقارنة بالانسحاب، من دون زرع فيدرالي ولا حصاد ديمقراطي. ولا عَجب من الفكرة، على الرغم من لا منطقيتها، إلا أن كل شيء بالعراق مباح ومتاح. ولا تفرز البيئة اللامنطقية سوى أفكار من جنسها، فدعونا نفترض إشهار الرئيس إسلامه، في حال لم تنجح خطته الجديدة، في الأقل لتأمين جانب مَنْ يصولون باسم مقاومة laquo;الصليبيينraquo; أو laquo;الكفارraquo;.

دفعتني إلى هذا التخيُل وفادة عبد العزيز الحكيم وطارق الهاشمي إلى البيت الأبيض، بصحبة وفدين طائفيَّين نقيين مع كل منهما في آخر شهور السنة الماضية، وقبلهما رؤساء الكورد، وفد السليمانية يعقبه وفد أربيل! وكتحصيل حاصل فعلتها دولة البعث وتركت البلاد عراقاتٍ لا عراقاً واحداً. وأظن أن عِمامة الحكيم هي ثاني عِمامة سوداء تدلف إلى المكتب البيضاوي. كانت الأولى عِمامة محمد بحر العلوم، عقب آذار 1991. دخل بحر العلوم البيت الأبيض، وهو يتأبط ملفاً سميناً، ربما اكتفى فيه أن لا تعود أميركا داعمةً لصدام حسين.

كانت رفادة بحر العلوم عراقية لا طائفية، فالجميع ممثلون في laquo;المؤتمر الوطنيraquo; قبل تضاؤله إلى شخص واحد. ومَنْ يقترب من أبي إبراهيم يجد صداقاته عامرة بخالد القشطيني السُنَّي، وفاروق رضاعة المسيحي، ومحمد مكية الليبرالي، وعبد الرزاق الصافي الاشتراكي، وهاني الفكيكي القومي، وعزيز صمانجي التركماني السُنِّي، ونعيم الشذر المندائي، ومحمود عثمان الكوردي السُنّي. مثله مثل مهدي الحكيم (اغتيل 1988) في سنوات المنفى، وحسين الصدر القاطن بالكاظمية، ولم يكن أياد جمال الدين إلا ابنَ هذه العمائم. وما أكثر الأُسر الدينية التي تمارس الليبرالية الفكرية، من دون إخلال بأُصول الدين وفروعه، وقد تجدها تختنق في الحزب الديني. لا أدري، إذا ما راودت الحكيم والهاشمي فكرة هداية بوش إلى الإسلام، تيمناً بما فعله الأجداد مع سلاطين المغول.

ولنا، في حمأة الطائفية السياسية، تخيل حَيرة بوش لو استجاب، أنه على أي مذهب سينطق بالشهادة؟ أعلى مذهب الحكيم، أم على مذهب الهاشمي؟ هنا نستعيد قراءة تاريخ الملوك الإيلخانيين بالعراق، ففيه ما فيه من المتشابهات. وليس لديَّ عُقدة من المغول، ولا الأمريكان فالدنيا كانت ومازالت مغالبة، وما أكثر سنابك الخيل التي مرت على أرض الرافدين. عموماً، سيكون إسلام بوش، إن تحقق، ذروة المتشابهات بين الغزوين!

مختصر الحكاية، لما وجدَ ملوك المغول أنفسهم وسط بحر مسلم، وأتوا للإقامة laquo;ماقام عسيبraquo;، سمعوا نصيحة الوعاظ، وشهروا إسلامهم، وهم كانوا يمزجون بين البوذية والميل إلى المسيحية. وقد حصل ذلك على درجات: تسمَّى نجل هولاكو السابع والسلطان الثالث، بعد سقوط بغداد، بأحمدَ، ليصبح أحمد تكودار خان (ت 683هـ). واختلف المؤرخون في أمره، هل أسلم بالفعل، أم مجرد تظاهر بالاسم! وقيل: كان laquo;مايلاً إلى الإسلام، وقيل كان مسلماًraquo; (التاريخ الغياثي). ولم يعلن المغول إسلامهم، بالعراق وإيران، إلا بإسلام السلطان الخامس غازان بن أرغون بن آباقا بن هولاكو (ت 703هـ). أشهر إسلامه على المذهب الشافعي (694هـ)، وتسمَّى بمحمود. ولأن laquo;الله لا يُغيّر ما بقَومraquo; نقل غازان تشدده في البوذية إلى إسلامه، فأظهر التعصب ضد كل الأديان والمذاهب، عدا ما أسلم عليه (الهمداني، جامع التواريخ).

إلا أن مناظرةً جرت بين الشافعية والحنفية، تحولت إلى ملاسَنة، أغضبت أخيه وخليفته محمد ألجياتو (ت 716 هـ) الحنفي المذهب. بل دعت قائد الجيش إلى القول في مجلس السلطان: laquo;ما الذي دهانا حتى تركنا دين آبائنا وأجدادنا ... لنعتنق دين المسلمين، الذين ينقسمون عدة أقسام... فخير لنا أن نعود إلى دين أسلافناraquo; (الصياد، الشرق الإسلامي في عهد الإيلخانيين). وكانت laquo;الردة وشيكة الوقوعraquo;، لولا اعتناقه للمذهب الشيعي بتأثير العلامة جمال الدين الحلي (ت 726هـ) وآخرين.

تشيع ألجياتو، وأعلن الأذان بحي على خير العمل، laquo;وأسقط أسماء الصحابة الثلاثة من الخطبة، وبأن تُكتب أسماء الأئمة الاثني عشر على السكةraquo;. ولمؤرخي الشيعة قصتهم في تشيع ألجايتو تتعلق بأمر طلاق زوجته وعودته إليها من دون محلل (التنكابني، قصص العلماء). عموماً، أخذ الشيعة يدعون ألجياتو تحبباً بـlaquo;خدابندهraquo; أي عبد الله، والسُنّة يدعونه بغضاً بـlaquo;خربندهraquo; أيlaquo;غُلام الحمارraquo; فتأمل..! وقيل عاد ألجايتو، في أواخر أيامه، إلى مذهب السُنَّة، وألغى ما شرعه من قَبل. كذلك ظل خليفتاه على المذهب نفسه: ابنه أبو سعيد بهادر (ت 736هـ)، وابنته السلطانة ساتي بيك.

هذا على مستوى الرؤساء إن تقدموا إلى الإسلام على أرض العراق، وهي تموج وتمور بالطوائف، أما الرعية فلكم ما حصل مع الصابئي المندائي صبيح أبو نوري: كان معلماً مفصولاً من الوظيفة، فتح دكاناً صغيراً يبيع فيه نواعم الأشياء، ويرتاد مقهىً خبرَ بحسه، المتوجس من الأكثرية، أطياف جُلاسه. استجاب لإلحاح طالبي الثواب باعتناقه الإسلام، ولما وقف وسط المقهى ينطق بالشهادة اختلف القوم، وعلت أصوات: أن يتوقف عند الشهادتين. وعلت أصوات: أن يكمل: laquo;أشهد أن علياً ولي اللهraquo;، ويلحقها بحي على خير العمل! ساعتها صرخ أبو نوري فيهم: laquo;اتفقوا أولاًraquo;! وانسل من بينهم بهدوء محتفظاً بديانته. وما زال، محتفظاً بها وباسمه الآرامي، حسب تقليد ديانته، وهو laquo;آدم زهرن بر هواraquo;، أظن معناها: آدم يضيء لحواء. وتعد ديانته من أقدم ديانات العراق الحيّة، ومحتفظة بأقدم لغاته، وسبقت المعتزلة بعشرات القرون إلى التنزيه المطلق للذات الإلهية، والتوحيد الخالص. اتصلت به للتوثق من حكايته، التي سمعتاها منه قبل سنوات، ولم آخذها على محمل الجد، إلا بعد خروج الطائفية من خلاف المقهى إلى اقتسام ضفتي دجلة بالدماء: كرخ سُنِّي ورصافة شيعية!

معلوم أن حدث اعتناق رئيس الولايات المتحدة الأمريكية للإسلام، إن حصل بضغط ورطة العراق، سيحول الغزو إلى فتح مبين لدى مرشد الإخوان المسلمين والولي الفقيه على السواء. لكن، أترى العقول التي تخاصمت في إسلام أبي نوري ستتصالح في إسلام جورج بوش؟ وكيف السبيل، وقد نما خلاف المقهى إلى كُتل برلمانية ووزارات وميليشيات متواجهة. المشهد مريع حقاً. أترى هي هذه الأرض التي على شواطئها اختُرعت الكتابة، والعجلة، وكُتبت أول شريعة، وتحدثت عن الجاذبية قبل نيوتن بثمانية قرون، أم أنها بلاد أخرى!

[email protected]