20 يناير 2007


حازم صاغية

فيما كان الرئيس الأميركيّ يعلن استراتيجيته المتصلّبة كان ينقضي ما يكفي من زمن على سقوط صدّام، بما يجيز إعادة تقويم العهد البديل وحصيلته. لكن الواقع البائس الذي آل إليه العراق يستدعي ملاحظتين أساسيّتين قبل الدخول في تفاصيل القصّة الدامية:

الأولى، أن العهد الصدّامي في قيامه على القمع وكبت خصوصيّة الجماعات، فضلاً عن فئويّته الطائفيّة ومغامراته العسكريّة، أسّس للكارثة اللاحقة. وفي المعنى هذا فما فعله نظام الاحتلال، وهو بدوره خطير، يرقى إلى تسريع الحدث الذي تقيم مقدّماته في عهد quot;البعثquot;.

والثانية، أن الاحتلال الأميركي وحلفاءه لم يبدأ تخريبهم العراق يوم إسقاط الحكم الصدّامي في 9 أبريل 2003. فقد سبق ذلك اعتماد حصار جائر نشأ بعد تحرير الكويت وأودى بالطبقة الوسطى العراقيّة تماماً. هكذا جاءت الدعوة الملحاح إلى الديمقراطيّة مفصولة عن كلّ سند اجتماعيّ يمكن أن تنهض فوقه ديمقراطيّة.

على هاتين الخلفيّتين اللتين تكاملتا من موقع النقيض، تلاحقت الأحداث المأساويّة. ففي 1 مايو 2003 أعلن بوش عن انتهاء العمليّات العسكرية الكبرى، وبعد خمسة أيّام عيّن بول بريمر على رأس إدارة مدنيّة تشرف على الانتقال إلى الديمقراطيّة ويخضع لها جاري غارنر، الجنرال المتقاعد الذي عُهد إليه بإعادة الإعمار. وفي 22 مايو رفعت الأمم المتّحدة العقوبات الاقتصاديّة التي كانت مفروضة، وبعد يوم واحد ألغيت مؤسسات الدولة جميعاً بما فيها الجيش الذي حُلّ فيما بدأت سياسة quot;اجتثاث البعثquot; التي آلت إلى طرد آلاف من وظائفهم. هكذا، بين عشية وضحاها، غدا مئات الآلاف عاطلين عن العمل، مستعدّين، كما تبيّن لاحقاً، لرفد أيّ عمل إرهابيّ وتعزيزه.

ولم تمض غير ثلاثة أيام على الاحتفال، يوم 13 يوليو، بإنشاء مجلس الحكم الذي ضمّ 25 عراقياً، حتى اعترف قائد العمليّات العسكرية الأميركيّ بأن بلاده تواجه حرب عصابات من نمط quot;كلاسيكيquot;، بعدما كان رسميّو وزارة الدفاع يصفون العمليّات بـquot;العنف غير المنسّق من قبل بقايا النظام البعثيّquot;.

ومع كلّ انتصار كان يحقّقه العهد الجديد كانت تواجهه مشاكل أكبر: ففي 22 يوليو أمكن قتل نجلي صدام، عدي وقصي، في مخبئهما شمال الموصل، لكنْ في 19 أغسطس كانت عمليّة انتحاريّة ضخمة تدمّر مقرّ الأمم المتّحدة في بغداد مؤدّية إلى مصرع 20 شخصاً بينهم كبير بعثة المنظّمة سيرجيو دي ميللو. وبنتيجة العمليّة هذه قرّر عدد من المنظّمات الدوليّة سحب عامليه في العراق. وما هي إلاّ عشرة أيام أخرى حتّى انفجرت سيّارة في النجف تأدّى عنها مصرع محمّد باقر الحكيم ومعه 90 شخصاً. وكان اختيار النجف وضريح الإمام عليّ إشارة دالّة إلى الطبيعة الطائفية التي يكتسيها العنف.

واستمر السلبيّ ينافس الايجابيّ ويهزمه. ففي 16 أكتوبر دعمت الأمم المتحدة قرار العراق الجديد حول نقل السيادة، وفي 23 منه تعهّدت 80 دولة مانحة تقديم 13 مليار دولار لإعادة الإعمار، فضلاً عن 20 ملياراً كانت تعهّدتها الولايات المتّحدة. لكنْ بعد أربعة أيّام، وكان اليوم الأوّل من رمضان، حصدت العمليّات الانتحاريّة 35 قتيلاً ومئات الجرحى في مقر الصليب الأحمر وخمسة مراكز للشرطة في بغداد. وبعد خمسة أيّام أُسقطت هيليكوبتر أميركيّة وقُتل 15 جندياً أميركيّاً فيما جُرح 21، ثم في 12 نوفمبر قضى في الناصريّة 16 عسكريّاً إيطاليّاً في عمليّة انتحاريّة. ولئن أُعلن في 15 منه عن أن التحالف سيسلّم السلطة لحكومة انتقاليّة في يونيو 2004، وألقي القبض في 13 ديسمبر 2003 على صدّام مختبئاً في حفرة، فالفرحة لم تدم طويلاً. ذاك أنه في 1 فبراير 2004 حصدت عمليّة أربيل الانتحاريّة مئة قتيل، وبعد تسعة أيام هوجم مقرّ للشرطة في بلدة أسكندرية الشيعية فقضى 45 قتيلاً، وتبدّى أن أياً من أطراف البلد ليس بمنأى عن العمليّات الانتحارية. ولئن اتُفق في 1 مارس على دستور مؤقّت، ففي 2 مارس حلّت المجزرة في بغداد وكربلاء، مخترقةً الاحتفالات الدينيّة للشيعة، وقد قضى بالنتيجة أكثر من 180 شخصاً رُدّ قتلهم إلى quot;القاعدةquot; والزرقاوي، وفي 13 مارس قُتل مقاول أميركيّ في الفلّوجة، لكنْ في 4 أبريل انخرط الشيعة من خلال مقتدى الصدر في العنف حيث تأدّى عن اشتباك مؤيّديه مع جنود التحالف قتل العشرات. بعد يومين قصف الأميركيّون مسجد الفلّوجة، وبعد أسبوعين شُكلّت محكمة للنظر في جرائم صدّام. لكنْ بعد يوم واحد، وفي 12 أبريل تحديداً، حدثت أربع عمليّات انتحارية على مقارّ للشرطة في البصرة والزبير سقط بنتيجتها 68 قتيلاً.

وكان يوم 29 أبريل صاعقاً إضافيّاً حيث ظهرت صور أبو غريب وشاعت. وإذ انسحب الأميركيّون في 30 منه من الفلوجة التي تسلّمتها قوات عراقيّة صير إلى تجميعها على مجمل ولم تنهِ القتال، ففي 11 مايو عُمّم شريط فيديو عن قطع رأس الرهينة الأميركيّ نيك بيرغ. وفي 17 مايو قُتل رئيس مجلس الحكم عزّالدين سليم. واستؤنفت معادلة الخطوة إلى الأمام تليها الخطى الكثيرة إلى الوراء. ففي 28 مايو سُميّ إياد علاوي رئيساً للحكومة الانتقالية، وما لبثت واشنطن أن سلّمتها السلطة، ثم في 1 يوليو ظهر صدّام في قفص المحكمة. لكنْ قبل نهاية ذاك الشهر قُتل 70 شخصاً في عمليّة انتحاريّة استهدفت مقرّ الشرطة في بعقوبة. وفي 18 أغسطس اختير 100 عضو للجمعيّة الوطنيّة في انتظار إجراء انتخابات عامّة، وبعد تسعة أيّام نجح المرجع الشيعيّ الأعلى علي السيستاني في الوصول إلى تسوية تنهي تمرّد الصدر، لكن في 24 أكتوبر قُتل أكثر من 40 متطوّعاً في الجيش في كمين شمال شرقيّ البلاد، وفي 22 ديسمبر قضى 19 جندياً أميركيّاً في انفجار طاول قاعدة عسكريّة في الموصل.

وإذ افتتح عام 2005 بتحذير من الزرقاوي، في 20 يناير، أجرى العراقيون بعد عشرة أيّام أول انتخابات تعدديّة منذ خمسين عاماً، ما شكّل تحدّياً للإرهاب، ولكنْ أيضاً تسجيلاً لاستقطاب طائفيّ غير مسبوق. لكن مدينة الحلّة كانت على موعد مع الموت في 28 فبراير حيث أدّت عمليّة انتحاريّة أشرس من سابقاتها الى قتل 114 شخصاً. وبعد اختيار الزعيم الكرديّ جلال طالباني رئيساً للجمهوريّة في 7 أبريل، قُدّر عدد الضحايا المدنيّين في مايو وحده بـ 672 شخصاً بعدما كان عددهم 264 في أبريل. بيد أن التقرير البريطانيّ الذي ظهر في 19 يوليو أشار إلى أن 25 ألف مدنيّ قد قُتلوا منذ الغزو الأميركيّ. أمّا سياسيّاً، ففي 28 أغسطس، رفض ممثلّو السنّة الدستور الجديد، داعين إلى تدخّل عالميّ. ولعب الخوف من الإرهاب دوره في المأساة التي قضت على ألف من الحجّاج الشيعة في 31 أغسطس، لكنّ ثلاثة أيام من أعمال الإرهاب، أواسط سبتمبر، حصدت مئات أخرى في الكاظميّة ومناطق أخرى. وفي اليوم الأخير من ذاك الشهر قُتل 62 شخصاً في بلدة بلد قرب بغداد. وفي 15 أكتوبر صوّت العراقيّون على مسودّة الدستور بما قدّم عيّنة أخرى على حدّة الاستقطاب الطائفيّ، فيما قتلت العمليّات الجويّة الأميركيّة 70 شخصاً، يوم 16 أكتوبر، في الرمادي.

ولئن أجريت انتخابات في 15 ديسمبر لم يقاطعها السنّة، فالنتائج التي أعلنت في 21 يناير أعطت اللائحة الشيعيّة أكثريّة، ولو غير مطلقة. وفي 22 فبراير 2006 كان حدث نوعيّ تأدّى عنه تدمير مسجد العسكريّ في سامراء، أحد مراكز الشيعة المقدّسة، ما أثار عمليّات انتقام فوريّة ضد السُّنّة. وفي 13 مارس أعلنت لندن أنها ستخفض قوّاتها، لكن الولايات المتّحدة باشرت بعد ثلاثة أيام حملات جويّة بالقرب من سامرّاء هي الأعنف منذ سقوط البعث. وفي 7 أبريل، وفي ثلاث عمليّات إرهابية سقط 85 شيعيّاً. وبدفع أميركيّ كانت تتداعى، في هذه الغضون، حكومة إبراهيم الجعفري الذي اختاره الائتلاف الشيعيّ بديلاً عن علاّوي، وفي 22 أبريل صير إلى تكليف نوري المالكي تشكيل حكومة جديدة.

ومثل اعتقال صدام الذي أثار التفاؤل، جاء مصرع الزرقاوي في 8 يونيو، لكنْ في 1 يوليو كان لانفجار سيّارة أن قضى على 66 شخصاً في مدينة الصدر، وفي 18 منه قضى 53 آخرون في الكوفة. وفيما كان يُحاكم صدّام، شرعت القوات البريطانيّة والأميركيّة تسلّم القوى المحليّة بعض المهمّات الأمنيّة، إلا أن اختراق الميليشيات الشيعيّة لقوات الشرطة الجديدة بدأ يتحوّل فضيحة مطنطنة.

وإذ صدر تقرير بيكر- هاملتون في 17 أكتوبر، انتهى العام وافتُتح العام الحاليّ بإعدام صدّام ثم أخيه برزان وأحد أعوانه عوّاد البندر. أما الذين راهنوا على التقرير فاتّضح لهم أن الأمور ساءت بحيث لا يستطيع تقرير واحد إصلاحها، فكيف وأنه تقرير لم يؤخذ به أصلاً!؟