مروان اسكندر


منذ عشر سنين ويزيد أقوم بزيارة مصر ثلاثا او أربع مرات في السنة لأسباب متنوعة، إما سياحية للإلمام ولو بالقليل من تاريخ مصر، وإما للمشاركة في مؤتمرات، وإما للبحث في مجالات للتعاون في نطاق العمل.
الانطباع الذي تكون لدي ان المصريين من اطيب الشعوب، لكنهم يميلون الى الكسل ويتعاملون مع مستوجبات العمل بمقدار من الاهمال، كما انهم يتأخرون في ترفيع تجهيزهم البنيوي، الامر الذي يوسع مشكلة التلوث المناخي في القاهرة على سبيل المثال ويعمقها.
كنت في القاهرة في نهاية الاسبوع المنصرم وشعرت بتغيير واضح في مؤشرات الحياة والانجاز.

من جهة اولى، يلاحظ الزائر تكرارا ان مشكلة السير خلال ساعات النهار في القاهرة، مدينة الـ18 مليونا، تحسنت الى حد ما. فقد انجز خط المترو الذي يستوعب حاليا نقل خمسة ملايين مصري من القاهرة واليها، كما تم تلزيم انجاز خط آخر الاسبوع المنصرم. التاكسيات المتقادمة التي يزيد عمرها على ثلاثين سنة ستسحب من الاستعمال وتبدل بسيارات حديثة بشروط ميسرة، وهذا امر يساعد على الحد من رواسب المحروقات، السبب الرئيسي للتلوث في القاهرة.

وهناك تطور واضح في تجهيزات المؤسسات السياحية والخدماتية، كما ان المشاركة الانثوية في هذه المؤسسات صارت اوسع بكثير، وامتلاك اللغات الاجنبية بات امرا مألوفا.
والاهم مما ذكرناه هو الحماسة لدى المستثمرين اللبنانيين والعرب لخوض تجارب الانتاج والترويج في مصر لان الفرص تبدو جيدة، في حين ان المناخ الاستثماري والسياسي في لبنان ملبد. كذلك هناك مجموعات لبنانية ناجحة في حقل السياحة في مصر، اذ تكفي مراجعة عدد الزوار لشرم الشيخ والغردقة والقاهرة.

وهناك شركات صناعية في مجالات النسيج والمفروشات والسيراميك والورق حققت انجازات ملحوظة وخصوصا على صعيد الصادرات، وشركات بدأت تمارس التصنيع الزراعي على نطاق واسع. ومنذ وقت قريب بدأت المصارف اللبنانية، مع انفتاح مجالات العمل المصرفي الخاص في مصر، تكوّن لها قواعد وهي بذلك تساهم من دون شك في تحديث وسائل العمل والتفاعل مع الخارج.
التحرك المتطور بسرعة في مصر ساهم في رفع معدل النمو الى ما يزيد على 6,7 في المئة عام 2006. وقياسا على منحى التطورات الانتاجية والاستثمارية، يمكن توقع تجاوز معدل النمو الـ7,5 في المئة خلال هذه السنة. ومشاريع ترفيع البنية التحتية لامدادات المياه والصرف الصحي والطرق تتجاوز تكاليفها مليارات الدولارات، ولكن ليس ثمة خوف على عدم توافر المال. كما ان مشاريع التطوير العقاري الاسكاني المدني في القاهرة وضواحيها وفي الاسكندرية، ومشاريع تطوير المواقع السياحية متكاثرة وذات ارقام خيالية تشارك في تنفيذها اهم شركات الاستثمار والتطوير العقاري في منطقة الخليج العربي.

التغيير واضح وهو حاصل في المقام الاول لان مصر تبنت مسيرة تحرير اقتصادها من اثقال الاشتراكية المفرطة ومركزية القرار، وهذا التوجه الجديد، منذ عام 1992 حتى تاريخه ndash; وهي فترة تضاعف فيها حجم الدخل القومي ndash; حقق انخفاضا في حصة القطاع العام من الدخل القومي من نسبة 60 في المئة الى مستوى 32 في المئة حاليا، اي اقل مما هو الحال في لبنان.
من المؤكد ان هناك مشاكل كبيرة في مصر، سواء في مجالات الاسكان، او سلامة الطرق، او سهولة الحصول على العناية الطبية. كما ان هناك تذمرا سياسيا الى حد ما، يزيده الروتين الاداري المتقادم العهد والذي لا يزال على حاله في الكثير من الدوائر والمراكز الحكومية منذ سنوات.

وعلى رغم كل ذلك، ومع التذمر، هناك شعور بان البلد على تطور وبان فرص الغد ستكون افضل من واقع اليوم، وبان مصر استعادت موقعا في الوعي العربي والعالمي يكرس اهميتها، وبان مشاكل زيادة عدد السكان وحاجات الاسكان الى تراجع ولو ببطء.
الزائر اللبناني لمصر، مثلي، يفرح لشعوره بان هناك انجازا مستمرا منذ سنوات، وان استمرارية الانجاز بدأت تتمظهر بفرص عمل افضل، ومستويات الانتاجية التنافسية، وخدمات تتناسب مع تطورات السياحة الحديثة التي صارت من اهم ابواب تحقيق النمو والتطور في بلدان العالم الثالث.
في المقابل، يحزن اللبناني على ما هو فيه وضع بلده.

فالسياسيون في لبنان يفرضون على اللبنانيين ايقاعا مملا في حياتهم.
والسياسيون يفرضون على اللبنانيين انخراطا في ممارسات بدائية لا عقلانية وديماغوجية.
والسياسيون في لبنان يفرضون على البلد ومستقبله تأمين مصالحهم الشخصية او المصالح المناطقية. والكل يريد تحميل الدولة اوزار كل شيء، حتى لو كانوا هم اساسا وتفصيلا وافعالا من دفع البلد الى حافة الانهيار.

قضايا النمو والتطور والحداثة، والتركيز على الخدمات المتقدمة في مجالات التعليم والاستشفاء والخدمات، كلها مؤجلة ومجمدة في انتظار تحقيق مطالب إما طائفية واما حزبية واما شخصية، والبلد وآمال شبابه واهله مرتهنة للتوجهات الاستئثارية.

نعم، لبنان يتأخر ويتراجع، سياسيا منذ الاستقلال، واقتصاديا كل خمس او عشر سنين او اقل، مع تفجر احداث سياسية. ولنتذكر 1958 و1968 و1975 و1982 و1988 و1989، ومنذ ايلول 2004 حتى اليوم، الاغتيالات وافدحها اغتيال رفيق الحريري، ومن ثم حرب تموز 2006 المدمرة لاقتصاد لبنان وآمال اهله في مستقبل افضل لابنائهم، وارتهان الآفاق المستقبلية لممارسات بدائية منفرة.
منذ زمن وخلال ازمة مستحكمة في لبنان، قيل ان احد الوسطاء النافذين ارتأى ان حل مشكلة البلد يتمثل في حمل ساسته في طائرة ومن ثم رميهم في البحر بين قبرص ولبنان. بالطبع كان هذا التصوير تعبيرا عن اليأس من التوصل الى حل تفاوضي في ذلك التاريخ، وكان الوسيط المشار اليه اميركيا.

اليوم، الوسيط الرئيسي هو عمرو موسى، الديبلوماسي العربي المتمرس والمتميز، المصري في انتمائه ونشأته وانخراطه المهني، فعساه يحمل السياسيين والزعماء اللبنانيين في رعاية جمهورية مصر العربية ليعيشوا ما تعيشه مصر من انفتاح آمال وفرص، على رغم وجود معارضة وتفاوت في وجهات النظر السياسية.