صبحي حديدي

موقع Amazon.com، أضخم وأشهر مواقع بيع الكتب علي شبكة الانترنت، يعتمد تقاليد ثابتة في تقديم الكتاب الي القاريء، لكي ينقلب الي شارٍ للبضاعة: بعد عرض المعلومات الببليوغرافية بطريقة جذابة، يسوق التحرير عدداً من الكتب ذات الصلة والتي أثارت اهتمام القرّاء الذين اشتروا الكتاب المعنيّ، ثمّ تُدرج فقرة بعنوان مراجعات التحرير تتضمن منتخبات وجيزة من مراجعات للكتاب ايجابية غالباً لأغراض الترويج بالطبع، منقولة في الاجمال عن دوريات متخصصة في الكتب والنشر، أو من نصّ كلمة الناشر علي الغلاف الأخير للكتاب. بعد هذا كلّه، وليس قبله البتة، يختار التحرير عدداً من المراجعات الصحفية التي لا تكون ايجابية دائماً وبالضرورة، وهذا أمر مستحبّ بالتأكيد، كما يفسح المجال للقرّاء كي يكتبوا التعليقات أو المراجعات بأنفسهم.

هذه، اذاً، تقاليد ثابتة يعتمدها الموقع ولا يحيد عنها... الا في حال الضرورات القصوي التي تبيح المحظورات وتجبّ المباديء وتلغي أيّ وكل التزام أخلاقي، كما حدث مع كتاب الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر، فلسطين: السلام لا الأبارتيد ، الذي صدر قبل أسابيع وأثـــــار ويثير حفيظة اللوبي الاسرائيلي في طول الولايات المتحدة وعرضـــها. ذلك لأنّ تحرير Amazon.com بدأ مباشرة من مراجعة نشرتها صحيفة واشنطن بوست الأمريكية، ليست سيئة وسلبية ومناهضة للكتاب فحسب، بل تتهم كارتر بمعاداة السامية، والانحياز الي الفلسطينيين علي حساب اليهود؛ وأنّ الأغراض الحقيقية، الخفية والخافية، في الكتاب هي تحريض مسيحيي أمريكا عموماً، وأتباع المذاهب الانجيلية خصوصاً، ضدّ اليهود والديانة اليهودية؛ وأنّ كارتر يوحي أنه في هذا الكتاب انما ينفّذ مهمّة كلّفه بها الله، هي تعداد آثام اليهود ضدّ الفلسطينيين!

وكارتر، تقول احدي فقرات المراجعة: يسعي الي اقناع المسيحيين الانجيليين باعادة النظر في دعمهم لاسرائيل، بعد أن صاروا مؤخراً من أشدّ الداعمين لاسرائيل، ولذلك فهو يتبني عدداً من الحجج التي تبرهن أنّ اسرائيل ليست أمّة تخشي الله كما يظنّ المسيحيون المتدينون، وأنها تضطهد مواطنيها المسيحيين أيضاً .
هل هذه مراجعة تروّج للكتاب، أم تروّج لتجريمه وتحريمه؟ وهل يستحقّ كارتر بالذات هذا التأثيم، هو الذي قدّم للدولة العبرية اتفاقيات كامب دافيد، أفضل صفقــــة سياسية وعســــــكرية حققتها اسرائيل مع العرب، لأنها أوّلاً أخــــرجت مصر مــن دائرة الصراع العربي ـ الاسرائيلي؟

ليت الأمر اقتصر علي مراجعة سلبية كتبها رجل مناهض لأفكار كارتر، أو حتي متعاطف مع اليهود عموماً والدولة العبرية تحديداً، فهذا ليس سلوكاً عجيباً في الولايات المتحدة. ما هو أنكي من المراجعة أنّ كاتبها، جيفري غولدبيرغ، ليس يهودياً أمريكياً فقط، بل هو أيضاً: 1) مواطن اسرائيلي منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي، و2) متطوّع سابق في ما يُسمّي جيش الدفاع الاسرائيلي ، و3) تطوّع، أثناء سنوات الانتفاضة الأولي، للعمل حارساً في معتقل كتزيوت، الواقع في صحراء النقب، أحد أسوأ سجون اسرائيل، والشبيه بمعسكرات الاعتقال النازية (ضمّ، في فترة تطوّع غولدبيرغ، أكثر من ستة آلاف سجين فلسطيني).

هل يعقل أنّ يكون هذا الرجل دون سواه صاحب المراجعة الأولي لكتاب كارتر، في أهمّ وأضخم مواقع بيع الكتب في العالم؟ هذا السؤال أجاب عليه الصحافي الأمريكي هنري نور بطريقة عملية، عصرية، فعّالة، وتعتمد مباشرة المبدأ القديم: داوها بالتي كانت هي الداء. ألا يسعي الموقع الي تنشيط التجارة وزيادة الأرباح؟ حسناً، فلنقاطع تجارته اذا أصرّ علي هذا السلوك الشائن مهنياً وأخلاقياً! وهكذا أطلق نور، علي الانترنيت، عريضة مفتوحة موجهة الي جيف بيزوس، المدير العام التنفيذي لـ Amazon.com، تستعرض تفاصيل المخالفة الفاضحة التي ارتكبها تحرير الموقع، وتطالب باتخاذ اجراءات تنصف الكتاب والمؤلف، قبل تاريخ 22 من الشهر الجاري، والا فانّ الموقعين علي العريضة سوف: : يتوقفون عن كلّ تبضّع عن طريق الموقع (وهو، للايضاح، يبيع عشرات الموادّ الثقافية المتنوعة، السمعية والمرئية، غير الكتب)، ويغلقون نهائياً جميع حساباتهم الجارية فيه، ويشجعون أصدقاءهم وعائلاتهم وشركاءهم علي القيام بخطوات مماثلة.

وقبل يومين أرسل نور الي بيزوس 16 ألف توقيع علي العريضة، وبعد يوم واحد فقط انحني تحرير الموقع تماماً، وبدّل الاخراج بحيث يبدأ تقديم الكتاب بمقابلة مع جيمي كارتر، خاصة بالموقع، واعتمد التحرير أريحية عالية في الاعراب عن تشرّف الموقع باستقبال كتاب من كارتر! انتصار صريح لا ريب، لكنه ليس نهــــائياً لانّ مراجـــــعة غولدبيـــرغ ما تزال علي الموقع، رغم أنها هبطت الي الترتيب الثالث بعد مقابلة كارتر وعرض مـــجلة Publishers Weekly. ولهـــــــذا، لعـــــلّ مـــــن الخيــــــر أن تـــزداد أعداد مـــــــوقّعـــي العريـــــضة (علي هـــــــذا الرابط hp//www.PetitionOnline.com/Amazon07/)، سعـياً الي ضغط أعلي ونتائج أفضل، ليس في هذا المثال وحده، بل في كلّ الأمثلة الأخري المماثلة التي تنطوي علي استهتار بالقضايا الكبري، لاعتبارات سياسية شائنة مهنياً ومنحطة أخلاقياً.

يبقي تفصيل واحد جدير بالتدوين هنا: من غير الممكن توجيه تهمة العداء للسامية الي هنري نور، عرّاب العريضة، لا لأي سبب آخر سوي أنه... يهودي! أكثر من هذا، لقد قاده ضميره الحيّ، ومواقفه المؤيدة للحــــــقّ الفلسطيني والمناهضة لما يُسمّي الحــــــرب علي الارهاب ، الي خســران عمله في صحيفة San Francisco Chronicle، رغم أنه ليس كاتباً سياسياً بل مجرّد محرّر في قسم... الكومبيوتر!