23 يناير 2007

سعد محيو

لعقود عدة كانت العلوم تحت قيادة أمريكا، لكن هناك الآن إشارات إلى أن العلم الأمريكي يخسر تفوقه، وربما وصل الآن إلى ذروته ليبدأ مسيرته الانحدارية.

أحد أسباب هذا التطور الخطير هو أن الأصولية الدينية والسياسية الامريكية بدأت تحكم قبضتها على أمريكا وباشرت استنزاف حيويتها الثقافية والإبداعية.

وفي المقابل، أظهرت الأزمة التي نشبت على الضفة الأخرى من المحيط الأطلسي أن الأوروبيين أدركوا المدى التدميري للأصوليات المتطرفة، وفي الوقت ذاته مدى الحاجة القصوى للإعلاء من شأن العلم.

وهكذا دلت الدراسات الأخيرة على أن عدد الأوراق العلمية التي نشرها مؤلفون أوروبيون غربيون، كانت أكثر من تلك التي نشرها مؤلفون أمريكيون، هذا في حين أنه في العام 1983 كان ثمة مؤلف أوروبي واحد بموازاة ثلاثة مؤلفين أمريكيين.

وفيما المعارك تستعر في الولايات المتحدة حول نظريتي التطور العلمية والخلق الدينية، كانت الأرقام تشير إلى تقلص كبير في عدد الطلاب الأمريكيين في دائرة البيولوجيا، بسبب هذه الفوضى الفكرية بالذات. حصيلة هذه المعارضة الأصولية الأمريكية للعلم كانت تخلف الولايات المتحدة عن ركب التقدم الذي تحققه كوريا الجنوبية وإيطاليا وبريطانيا في مجال الاستنساخ والأبحاث حول الجينات والخلايا الأم.

التاريخ يثبت أن الأصوليات تقود في كل حين إلى الجمود والكوارث. هذا ما حدث لدولة ldquo;إسرائيلrdquo; القديمة حين سيطر المتعصبون اليهود على الوضع، فتخلفوا بذلك عن ركب الحضارات المجاورة، الأمر الذي سمح للامبراطورية الرومانية بتدمير دولتهم والتسبب بشتات يهودي دام 2000 عام. أيضاً الأصولية المسيحية في الامبراطورية الرومانية أدت إلى 500 سنة من القرون المظلمة، والأصولية البوذية التنسكية جمّدت الصين من القرن الرابع إلى التاسع، فيما انتصار الأصولية الإسلامية العام 1067 أدى إلى ألف سنة من التأخر في العالم الإسلامي.

في المقابل، تاريخ أوروبا الحديثة (الثورة العلمية، التنوير، معارك التحديث في القرن 19) يمكن توصيفها بأنها انتصار العقلانية والعلم على الدوغما الأصولية. أوروبا، وهي مهد العلم الحديث الذي تحدى ثم كسر سلطة الكنيسة، تعيد الآن اكتشاف أهمية التصدي للأصولية بالعلم.

لكن يبدو أن أمريكا لم تفهم بعد المضامين التاريخية لهذه المسألة، وهي تندفع بسرعة قصوى هذه الأيام نحو مصير أصولي قاتم. لماذا؟

فتَش عن السياسة، ومعها الاقتصاد.

فقد أدى تسارع خطى الحداثة في أواخر القرن العشرين (وأمريكا هي دولة الحداثة الأولى في العالم) بفعل التطور التكنولوجي المتسارع، إلى ما يسميه فرانسيس فوكوياما ldquo;التمزق الاجتماعي الكبيرrdquo; في الولايات المتحدة. وهذا ما دفع المواطنين الأمريكيين إلى البحث عن ملاذات أخرى خارج إطار الدولة، فلم يجدوه في القومية الأمريكية التي تآكلت على يد الشركات متعددة الجنسيات وبسبب الخلل الديموغرافي بين البيض الانجلوساكسونيين والملونين اللاتين، بل في أحضان الكنيسة.

وهنا أطل السياسيون الأمريكيون برؤوسهم، ومعهم ممولوهم الرأسماليون، لقطف ثمار هذا التحول، فولدت المسيحية السياسية الجديدة في أمريكا، وولدت معها ردة الفعل العنيفة ضد كل عناصر الحداثة وعلى رأسها النظريات والسياسات العلمية.

وهذا ما جعل أمريكا تقف الآن على مفترق الطرق ذاته الذي وصلت إليه الحضارات السابقة (بما في ذلك بالطبع الحضارة الإسلامية) حين وصلت إلى ذروة مجدها: إما بالتجدد الذاتي عبر مواصلة الانفتاح العلمي، أو اجترار الذات عبر الانغلاق الديني.

وكل الدلائل (حتى الآن على الأقل) تشير إلى أنها انحازت، وربما بشكل نهائي، إلى لعنة الجمود.