23 يناير 2007

طهران ـ ميشال نوفل، المستقبل

تجري في إيران منذ بعض الوقت عملية كبرى لإعادة ترتيب التوازنات على مستوى المؤسسة الحاكمة، وهي عملية قد تجعل الأسابيع المقبلة أكثر سخونة من زاوية الحياة السياسية التي طغى عليها حتى الآونة الأخيرة quot;الصراع تحت الماءquot; بين مراكز القوى والمواقع المؤثرة في السلطة.
وتفيد تقارير متقاطعة في طهران أن لعملية إعادة ترتيب البيت هذه مؤشرات عدة أبرزها محاولة إعادة ضبط حركة مراكز القوى في مؤسسة الحرس الثوري ووضعها كلها تحت عباءة المرشد الأعلى للجمهورية آية الله محمد علي خامنئي، والهزيمة الشنيعة التي تلقاها quot;خط المهدويةquot; المتمثل في آية الله مصباح يزدي ومقلده الرئيس محمود احمدي نجاد في انتخابات مجلس الخبراء والمجالس البلدية والمحلية.
كما أن من المؤشرات، إعادة الاعتبار للرئيس هاشمي رفسنجاني عبر الانتخابات الأخيرة بحيث بات (في حال اعتزال خامنئي) الشخصية الوحيدة بين المؤسسين المؤهلة لتولي دفة القيادة في البلاد بالنظر الى كفاءته المشهود لها كرجل دولة يعرف الملفات الخارجية والداخلية معرفة دقيقة، خصوصاً أن الفوز الذي حققه في انتخابات مجلس الخبراء على حساب مصباح يزدي الذي جاء في المرتبة الأخيرة، يضعه في موقع المعادل للمرشد الأعلى، فضلاً عن كونه يستجيب للمعايير الدولية بفضل مصداقية تجربته السابقة في الرئاسة وتوازنه واعتداله، ويحفظ تماسك النظام، ويُرضي في آن الرأي العام الإيراني ويطمئن المؤسسة الدينية.
وكان لافتاً الأسبوع الماضي رفع مستوى الحراسة الأمنية على مقر إقامة رفسنجاني في طهران، وامتناعه عن الظهور في المجال العام بما في ذلك اجتماعات هيئة تشخيص مصلحة النظام التي لا يتغيب عنها عادة، واعتبار المقربين منه أنه يعد نفسه لخطوة ما على مستوى القيادة في ضوء اشتداد وطأة المرض على خامنئي وتوسع ظاهرة quot;الصراع تحت الماءquot; بدليل البيان الذي أصدرته جماعة مصباح يزدي في مدينة قم واعترضت فيه على زيارة مقررة لرفسنجاني الى المدينة المقدسة حيث كان مدعواً لإلقاء محاضرات في المدارس الدينية.
ولعل الإشارة الأهم جاءت من صحيفة quot;الجمهورية الإسلاميةquot; التي يُشرف عليها خامنئي، عندما فتحت الأسبوع الماضي النار على احمدي نجاد بحجة إدارته السيئة للملف النووي، محذرة اياه من أنه تجاوز الحدود كثيراً في تعامله غير المسؤول مع مضاعفات القرار 1737 لمجلس الأمن الذي يفرض عقوبات دولية على إيران من شأنها زعزعة الاستقرار الداخلي إذا طاولت تجميد الاحتياطات الأجنبية وفرض حظر على استيراد النفط الإيراني ومنع تصدير المنتجات النفطية الى إيران على الصعيد الدولي. ويعاقب الـ1737 البرامج النووية والبالسيتية الإيرانية على خلفية برنامج طهران لتخصيب اليورانيوم، وتشمل العقوبات تعليق تصدير المعدات والتكنولوجيا المرتبطة بهذه الأنشطة، إضافة الى تجميد أموال الأشخاص الإيرانيين المعنيين بهذه البرامج وتقييد رحلاتهم خارج البلاد.
وتعني إشارة quot;الجمهورية الإسلاميةquot; أن ما يقوم به احمدي نجاد من سياسات ليس من صلب النظام، وفيها رسالة مبطنة الى المجتمع الغربي مفادها أن الرئيس احمدي نجاد لا يمثل القرار النهائي في الجمهورية الإسلامية، وأنه يجب الانتظار قليلاً لكي تنتج مراكز قوى أخرى السياسة الأصلية.
وكان يمكن أن يكون هذا الحدث عادياً لو لم يتزامن مع حملة بدت كأنها منظمة ضد نجاد انطلقت بالاحتجاج الصاخب لطلاب الجامعة له وانتهت بمهاجمة النواب المحافظين في البرلمان لسياساته الاقتصادية، مروراً بالانتقادات المتكررة في الصحف لسياساته العامة خصوصاً بعد ما تعرضت له طهران من إدانة دولية في مجلس الأمن وعزلة تجلت في مقاطعة مراكز الأبحاث الدولية المحترمة لتنظيم نجاد مؤتمر المحرقة اليهودية.
ويؤخذ على نجاد وفريقه الحكومي من المتشددين أنهما لا يفعلان شيئاً باستثناء الخطابات الايديولوجية لإعادة إطلاق سياسة التنمية التي باتت مهملة لمصلحة تطوير البرنامج النووي، في وقت تشهد البلاد ارتفاعاً جنونياً لأسعار المواد الغذائية وتضخماً يرفع سعر العقارات والايجارات الى الضعفين خلال سنة واحدة. ويرى الرأي العام أن أحمدي نجاد دائم التنقل في الداخل والخارج ولا يلتزم واجباته رئيساً تنفيذياً، ويطالبه بالبقاء في العاصمة للعمل جدياً على حل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية، وفي مقدمها الحد من مستويات البطالة التي تبلغ بحسب التقديرات الرسمية 12 في المئة، وضبط التضخم المنفلت، وحل الأزمة السكنية. وتصل انتقادات الرأي العام الإيراني الى حد القول إن نجاد يتحمل المسؤولية الكاملة لزج البلاد في حرب في حال وقعت بسبب مواقفه الدونكيشوتية وتصريحاته الاستفزازية!
المهم أنه يتوقع الآن أن يصار الى التضحية باحمدي نجاد، وربما قبل موعد الانتخابات التشريعية خلال سنة ونصف السنة، ذلك أن بعض الأوساط البرلمانية شرعت في التحرك لطرح عدم أهليته لممارسة الحكم وإدارة شؤون البلاد. وفي حال اتخذ هذا التحرك البرلماني وتيرة سريعة، فإن القضايا الداخلية ستكون العنوان الرئيسي لعدم أهلية احمدي نجاد وليس الملف النووي (في هذا الموضوع يشاطره مواقفه المرشد وبعض القوى الأخرى)، وإذا ما أشير في البرلمان الى الملف النووي فإن النواب سيتناولون التصريحات المتسرعة له وتأثيراتها السلبية على مجمل السياسة الخارجية الإيرانية.
quot;الجمهورية الإسلاميةquot; بما تمثل أعطت إشارة انطلاق المعركة ضد احمدي نجاد، وهي من علامات quot;الصراع تحت الماءquot; بين مراكز القوى في السلطة لكنها تعني أنه أخذ يطفو على السطح بموافقة بعض مراكز القوى.
لكن السؤال الأساسي يتناول طبيعة quot;الصراع تحت الماءquot; والأطراف الضالعين فيه. وفي هذا الإطار يتعين التمييز بين 3 اتجاهات للصراع.
الأول يجري بصورة مبطنة بين رفسنجاني ومؤسسة المرشد إذا جاز التعبير، على أساس الخلاف حول التوجه الذي يقضي بالتصعيد على كل الجبهات في المنطقة في آن استناداً الى التصور القائل إن المشروع الأميركي في حالة انهيار ويمكن تعميق أزمته المتمثلة في عدم القدرة على إدارة كل الملفات المفتوحة على أزمات، في انتظار أن تقدم هذه الاستراتيجية شيئاً لإيران في المستقبل، وهذا التوجه يقود بحسب رفسنجاني الى تعطيل الكثير من النشاطات والخطط التنموية في إيران.
الاتجاه الثاني للصراع يدور بين رفسنجاني والهيئات التي تعطي مشروعية لبعض مراكز القوى، ومنها مؤسسة المرشد والحوزات الدينية. وعندما نتحدث عن الحوزات الدينية، فإنما نعني الخطاب المتزمت لمصباح يزدي الذي يمثل الخطر الأكبر على اتجاه رفسنجاني. ذلك أنه حتى لو تسنى لرفسنجاني الحصول على موافقة المرشد على سياساته أو أخذ منه بعض الامتيازات من أجل إخراج إيران من الأزمة الآخذة في التفاقم يوماً بعد يوم، فإنه سيواجه معارضة من نوع آخر هي quot;تحت الماءquot; الآن بينه وبين الأقطاب الذين يحتمون حالياً بعباءة المرشد لتعزيز مواقعهم المستقبلية في تركيبة النظام السياسي.
هذا الاتجاه في الصراع يعتبره رفسنجاني أقوى وأعنف، وقد تكون له تداعيات أكثر على الصعيد الوطني في المستقبل، لكون التيار الأصولي المعارض لرفسنجاني له مواقع قوة وبعض النفوذ في الحرس الثوري، فضلاً عن المساندين في الأجهزة الأمنية. وهذا يعني أن هذه العقدة فكها أصعب، إلا إذا قام المرشد بعملية إعادة النظر رسمياً، وأطلق يد رفسنجاني للقيام بالإصلاحات اللازمة، على أن يكون خامنئي المساند الرئيسي لتوجهات الرئيس رفسنجاني، ما يخفف من صعوبة المواجهة المقبلة بين رفسنجاني والاتجاه المعارض له.
وفي حال اتخذ المرشد موقف الترقب أو تجنب التدخل تاركاً الصراع مفتوحاً بين التيارات المساندة للرئيس رفسنجاني من جهة، والتيارات المتزمتة والأصولية التي يتزعمها مصباح يزدي، فإن المواجهة سترتدي أبعاداً خطيرة لأن الجهة التي تتزعم التيارات المتزمتة والأصولية تفعل ذلك باسم حماية ومساندة مؤسسة المرشد وتضع نفسها تحت عباءته، وهذه هي المشكلة الآن.
هل يرفع المرشد الغطاء عن مؤيدي مصباح يزدي ليخفف من وطأتهم تجاه رفسنجاني مستقبلاً، ام يترك الباب مفتوحاً على مصراعيه أمام المواجهة؟
يبدو أن المرشد يتجه نحو رفسنجاني الذي أراحه من مصباح يزدي، لأن ترك المجال مفتوحاً لمصباح يزدي ومراكز القوى التابعة له، من شأنه أن يجعل من الصعب السيطرة على الأزمة أو يصبح من العسير إدارتها مستقبلاً أو التنبؤ بتداعياتها.
أما الاتجاه الثالث للصراع فهو بين القواعد التي تستند الى رفسنجاني من جهة، وتلك القواعد التي تتبع توجيهات مصباح يزدي في الحرس الثوري والأجهزة الأمنية. وفي المواجهات في إيران يتعين دائماً الفصل بين الرؤوس على قمة الهرم والهياكل التي تتواجه عند وقوع المعركة بين رؤوس الهرم، وعندما تأخذ المواجهة شكلاً بنيوياً، تدخل فيها عناصر أخرى لم تكن محسوبة على الهياكل الرسمية المعروفة، بأسماء وتصنيفات خاصة.
وترجح الأوساط المتابعة أن يتخذ هذا الصراع بعداً واضحاً في المستقبل القريب، ليس بسبب طبيعته بل تحت ضغط العناصر والمتغيرات التي ستؤثر لا محالة في جوهر الصراع بحيث يطفو سريعاً على السطح، وهذه المتغيرات تأتي من الضغوط الخارجية والتجاذبات الداخلية.