الجمعة 26 يناير 2007


د. رغيد الصلح

سبقت موقعة ldquo;باريس 3rdquo; مواقع جزئية ومتفرقة في الأراضي اللبنانية. ولقد اتسمت تلك المنازلات بمفارقة تلفت النظر. فمن العادة أن يكون الجانب الأشد عنفاً واستثارة للمشاعر في مثل هذه المنازلات هو ما يجري على الأرض من مجابهات حادة بين الجماهير المؤيدة لهذا الفريق أو ذاك، وأن يسبق الشباب المتحمسون الزعماء في توجيه الضربات المؤذية والعنيفة إلى الفريق الآخر. كذلك جرت العادة أن يسعى الزعماء إلى ضبط الصراع حتى لا يفلت خاصة وأن المتصارعين هم من أبناء الشعب الواحد ولا ينتمون إلى شعوب أو دول متعادية.

ما جرى قبل أيام على الأراضي اللبنانية يدل على أن الزعماء تمكنوا، إلى حد ما، من إبقاء الصراع في حدود مضبوطة فلم يتطور إلى اشتباكات مسلحة واسعة النطاق. ولكن، بالمقابل بدا وكأن الزعماء اللبنانيين فشلوا في ضبط أنفسهم وفي الحد من العنف اللفظي والتراشق الكلامي الذي مارسوه هم لا غيرهم فأصبح سيد الساحة السياسية اللبنانية. وإذ امتلأت الأجواء اللبنانية السياسية بالاتهامات المتبادلة والنعوت القاسية وحملات الكره والبغض والتحقير، بات من الشائع التساؤل عما إذا كان في المستطاع أن يجلس الزعماء اللبنانيون مرة أخرى مع بعضهم بعضاً، وان يتناقشوا بهدوء وروية، وان يتوصلوا إلى حلول للمعضلات التي يواجهها لبنان ومنها كارثة الدين الذي تثقل كاهل اللبنانيين والتي يفترض أن يساعد ldquo;باريس 3rdquo; على توفير الحلول لها.

إن العودة إلى طاولة التحاور قد تكون صعبة إن لم تكن مستحيلة، فالتحاور يتطلب حداً أدنى، على الاقل من الثقة ومن حسن النية بين المتحاورين، وهو شرط غير متوافر، كما هو واضح بين الزعماء اللبنانيين، إلا أن ما هو غير مستبعد ولا بالمستحيل هو الجلوس إلى طاولة التفاوض. فالتفاوض يبدأ بين زعماء متعادين على أن ترافقه مساع لبناء الثقة فيما بينهم. وهذه الثقة تنبني إذا أمكن تحديد نقاط الخلاف الرئيسية وبوضوح حتى يفضي التفاوض إلى الاتفاق على أهم القضايا الرئيسية، إذا لم يتم التفاهم على هذه القضايا، فإنها سوف تطل برأسها في المستقبل لكي تعيد أجواء الاحتراب والافتراق إلى اللبنانيين. من هذه القضايا اثنتان يجري التطرق إليهما راهنيا ولكن بالكثير من التسرع وبنهج أحادي.

القضية الأولى، هي مسألة النظام السياسي اللبناني. فلبنان هو، في رأي الكثيرين من المؤرخين، الوريث الحي للامبراطورية العثمانية من حيث نظامه السياسي، إذ أخذ عنها النظام الملي وطوره خلال القرن التاسع عشر وحوله إلى أساس للديمقراطية التوافقية اللبنانية. وفيما تغير حال لبنان من العهد العثماني إلى الفرنسي فإلى الاستقلال، استمر النظام السياسي اللبناني على حاله.

انطلاقاً من فكرة التوافق هذه، تطالب المعارضة اللبنانية بتشكيل حكومة ائتلافية تتمثل فيها كافة القوى الرئيسية. كذلك تطالب المعارضة اللبنانية أن تمثل كافة القوى بصورة فعالة. الفريق الحاكم، من جهة أخرى، يرفض هذا المطلب، ويعتبر انه من حقه ان يحكم البلد باعتبار أنه يمثل الأكثرية النيابية. وهذا الموقف الأخير صحيح لولا أن النظام السياسي في لبنان هو نظام توافقي، ولولا أن هذا النظام عميق الجذور في التاريخ اللبناني. وإذا كانت الأكثرية الحاكمة تريد تغيير استبدال نظام الديمقراطية التوافقية، وهذا ما يعتبر مطلباً عاماً عند اللبنانيين، فإن وثيقة الوفاق الوطني اللبناني تقرر أن التغيير ينبغي أن يكون، هو في حد ذاته، حصيلة جهد توافقي فلا تتفرد جهة واحدة في تنفيذه.

القضية الثانية هي مسألة السياسة الخارجية اللبنانية وما يتصل بها من المواقف تجاه الأوضاع الدولية والإقليمية. وأكثر القضايا حساسية على هذا الصعيد هي قضية الموقف من القوى الإقليمية غير العربية أي ldquo;إسرائيلrdquo; وإيران تحديداً. فعلى صعيد الصراع العربي ldquo;الاسرائيليrdquo; ترتكب بعض أطراف المعارضة خطأ إذا نظرت إلى لبنان وكأنه فيتنام الشمالية والى بيروت وكأنها هانوي. أي انها ترتكب خطأ إذا تصرفت على أساس ان مسؤولية تحرير فلسطين تقع على عاتق لبنان وحده. إن مسؤولية دحر العدوان الصهيوني هي مسؤولية عربية، بل هي مسؤولية إنسانية عامة كما كان التحرر من نظام الابارتايد في جنوب إفريقيا هدفاً أممياً. وفي هذا السياق الأخير تضطلع دول صديقة مثل إيران وغيرها من الدول المستعدة للنضال ضد العنصرية بأدوار رئيسية.

إلا أن الاقتناع بأن لبنان لا يستطيع أن يكون فيتنام شمالية شيء، وتحويل لبنان إلى جمهورية فيشي شيء آخر. ففرنسا خرجت من الحرب ضد الهتلرية عندما ألحقت بها الجيوش الألمانية هزيمة حاسمة خلال الحرب العالمية الثانية. وحكومة فيشي التي أعلنت خروج فرنسا من الحرب على أساس أنها لم تعد قادرة على مقاومة النازية، ما لبثت ان دخلتها من الباب الخلفي إلى جانب المحور وضد الحلفاء. وبعض أطراف الفريق الحاكم يتصرف وكأن هذا هو المطلوب فيقول زعيمه ان ldquo;العدو وراءناrdquo; لاحظ ال التعريف كما تحول الحلفاء إلى أعداء لفرنسا الفيشية بدلاً من دول المحور.

لقد تكبد لبنان خسائر كبرى خلال حرب الصيف. ولبنان يستطيع أن يحد من هذه الخسائر إذا تمكن اللبنانيون من بناء دولة عصرية، ديمقراطية وقوية. ولبنان يستطيع الحد من هذه الخسائر، إذا لم يعتبر ldquo;عروبةrdquo; الصراع ضد الاحتلال ldquo;الإسرائيليrdquo; مبرراً للتنصل من موجباته، ولكن حافزاً إلى تطبيق سياسة دفاعية تحمي شعبه وبنيته الاقتصادية ضد أي عدوان مهما كان مصدره، وكذلك حافزا لكي يسهم لبنان، بحكم

الخبرة والتجربة وبكل قوة في بناء استراتيجية عربية ودولية ضد الابارتايد ldquo;الإسرائيليrdquo;.

ان الاتفاق على قضيتي النظام السياسي والسياسة الخارجية صعب جدا ولكنه ليس مستحيلا. ولقد تمكن اللبنانيون، في ظروف صعبة ومعقدة من التوصل إلى ميثاق وطني والى بناء شراكة وطنية استمرت أكثر من العقدين من الزمن، فهل يستطيعون الإفادة من هذه التجربة لكي يبنوا شراكة وطنية أكثر ثباتاً واستقراراً؟ إذا فعلوا ذلك فلن يكونوا بحاجة إلى ldquo;باريس 3rdquo; والى الصدقات يستجدونها ممن لا يعطي الصدقات مجاناً.