الجمعة 26 يناير 2007


د. حسن مدن


يعتقد أحد الروائيين الكلاسيكيين الانجليز أن أفضل مناسبة لقراءة قصة مكتوبة بأسلوب رشيق شائق، هي عندما يكون المرء مسافراً وحده في قطار حيث يجلس وسط جمهور من الغرباء، وفي الخارج تمر المناظر الطبيعية غير المعروفة التي يخترقها القطار، حيث يلقي القارئ بين الحين والآخر نظرة سريعة عليها، فهاهنا، برأيه، تحقق الحياة المحببة المنبعثة من الكتاب تأثيرها الذي لا يمكن إزالته. وقرأت في كتاب عن ldquo;تاريخ القراءةrdquo; وضعه البرتو مانجويل وعربه سامي شمعون حكاية فتاة شغوفة بالقراءة، لكنها لا تقرأ كتبا كثيرة، فهي تكتفي بقراءة نفس الكتب مرة تلو أخرى، إنها على سبيل المثال تعشق رواية البؤساء لفكتور هوجو التي تنهمك عليها بشغف كبير من دون الالتفات يمنة أو يسرة في كل مرة تعيد قراءتها.

وللناس في الطريقة التي يقرأون بها الكتب مذاهب، فهناك من يهوى القراءة في الفراش، وهو متنعم بدفء اللحاف والملمس الناعم للوسائد، وكتب أحد هؤلاء يقول إن المؤالفة بين السرير والكتاب تمنحه ما يشبه المسكن الذي يستطيع الرجوع إليه ليلة بعد ليلة، ومن واقع خبرته فان هذا الرجل يعرف انه ليس كل كتاب يلائم القراءة في الفراش، فالروايات البوليسية والقصص المرعبة تؤمن له نوما مريحاً هادئاً، أما بالنسبة لصاحبتنا الفتاة التي تعشق رواية ldquo;البؤساءrdquo; فإنها ترى أن أجواء المطاردات عبر الطرق وقنوات مياه الصرف الصحي والمتاريس التي تهيمن على الرواية جعلت منها كتابها المفضل وهي مستلقية على السرير في غرفة النوم الهادئة. وهناك من يعتقد أن الكتاب يجب أن يقرأ في مكان يتناقض مع أجوائه، لذلك لا نندهش حين نقرأ في سير المشهورين وكبار الكتاب طقوسا غريبة، فالكاتب أندريه جيد مثلاً كان يقرأ كتب ldquo;بيلوrdquo; وهو على ظهر عبارة تشق طريقها عبر نهر الكونغو، وسيبدو له التناقض بين الغابات الكثيفة والشعر المنحوت المصقول الذي وضعه بيلو في القرن السابع عشر مريحاً جداً.

عودة إلى الفتاة التي جعل منها مؤلف ldquo;تاريخ القراءةrdquo; محور أحد فصوله واسمها كوليت، سيلاحظ المؤلف أنها اكتشفت أن بعض الكتب لا تحتاج فقط إلى نقيض في المحيط الذي تقرأ فيه، وإنما إلى وضع جسدي معين عند قراءتها، الذي كان بدوره يتطلب مكانا للقراءة يتماشى مع هذا الوضع، فلكي تقرأ تاريخ فرنسا مثلاً كان عليها أن تجلس متكورة في كرسي والدها وإلى جانبها قطتها المدللة، التي تعتبرها الأذكى بين القطط.

يمكن أن نذهب أكثر فنرى متعة في الطريقة التي كان بروست يفضل فيها غرفة الطعام مكاناً للقراءة، فما أن تغادر عائلته المنزل، ينسحب إلى تلك الغرفة موقنا أن أصحابه الوحيدين الذين يحترمون القراءة هم الأطباق الملونة المعلقة على الجدار، والتقويم الذي اقتطعت منه توا ورقة البارحة، والساعة والموقد الذين يتحدثون من دون أن ينتظروا ردا. كان الصمت المطبق في الغرفة يمثل بالنسبة له مدعاة للراحة، اعتقادا منه انه ليس الكلمات وحدها هي ما يعبر الناس من خلاله، يمكن للأشياء في الصمت أن تعبر، وحين تظهر الطاهية كان عليه أن ينسحب لأن خلوته قد فسدت، لأنها لا تستطيع إلا أن تتكلم، موجهة إليه سؤالا بريئا ومخلصا من نوع : هل تريد أن أجلب لك طاولة؟ ولكن سؤالا مثل هذا كفيل بأن يبدد المناخ الأليف الذي هو فيه. وكان أكثر ما يغيظه ويلقي به في حال من التوتر هو أن تصل رواية بين يديه إلى نهايتها، ويتمنى لو أن الأحداث تتابع مسيرتها، لأن العلاقة التي أقامها مع شخصيات الرواية التي أحبها بلغت النهاية أو أوشكت.